البدو... الجماعة البشرية الوحيدة التي قضت عليها الدولة الحديثة

29 أكتوبر 2015
تمكنت الدولة من تذويب البدو في بوتقتها الجديدة(Getty)
+ الخط -




ماذا بقي من الصحراء؟ بقي الفضاء الذي لا يحدُّ. بقي الرمل. بقيت الريح تعصف وتذرو. بقي الحرُّ والقرُّ. بقي العطش. بقي السراب. بقيت أعشاب وشجيرات تكافح، بمعجزة الطبيعة، ضراوة المناخ. بقي كل ذلك لكن لم يبق أهل الصحراء. فجأة تبخروا كما تتخبر قطرة ماء في الصحراء. عشرات القرون انطوت بطرفة عين. هؤلاء الذين قهروا الشمس التي تصب نحاساً مصهورا على الرؤوس، والليل الذي ترتجف في زمهريره الكائنات الخفية، هؤلاء الذي روضوا الجوع والعطش، وآخوا الوحوش، ونجوا من آفة الانقراض عشرات القرون.. انقرضوا مع أول هبوب لرياح "المدنية" على الصحراء. مع مجيء الدولة راحت تتحدد مساحات الحركة وتُسيِّج الحدود وتُرفع الأعلام ويصبح الترحّل، الطبيعة الأولى لأبناء الصحراء، محتاجا إلى جواز سفر وختم. الطائفة البشرية الوحيدة التي قضت عليها الدولة الحديثة هم البدو. فالفلاحون ظلوا فلاحين (إن أصبحوا عكس ذلك، فهذا قرارهم)، نواة التمدين توسعت وصارت نموذجاً للمستقبل الذي تسعى إليه الدنيا. لكن البدو لم يستطيعوا أن يتأقلموا مع الدولة. إما هم أو الدولة. فقبل الدولة كانوا هم دولة أنفسهم. هم حكومتها. هم الذين يضعون القانون ويحددون الحُكم وينفذون العقاب. بيد أن هذا لم يعد ممكناً مع الدولة التي تسعى إلى صياغة عقد اجتماعي لم يألفه البدو من قبل. التنازل عن جزء من حريتهم للدولة هذا جديد عليهم. لكن ما بدا صعباً، بل مستحيلاً، حصل من دون مقاومة تذكر: لقد تمكنت الدولة من تذويب البدو في بوتقتها الجديدة. لم يذوبوا تماما لكنهم لم يعودوا كما كانوا. 
أتحدث هنا عن الحالة الأردنية التي تشبه، على الأرجح، ما جرى في الشريط الطويل الذي كانت تعبره القبائل، من قبل، بحثا عن "الكلأ والمرعى" وفرارا من الثارات: شريط يمتد من بادية حمص في سورية وينتهي في هضبة "نجد" في ما يسمى اليوم "العربية السعودية"، مرورا بالأردن من جهة، وفلسطين التي ينتهي ترحال القبائل فيها إلى سيناء.
 جاءت الدولة الحديثة في العقد الثالث من القرن العشرين لتنهي تدريجاً حياة البدوِ وتؤذن بنهاية أسطورة الصحراء وتربط القبائل التي لم ترتبط من قبل إلا بمواثيقها وأعرافها بمواثيق وأنظمةٍ جديدةٍ لن يكونوا قادرين على مقاومتها والعيشِ خارجها طويلا.. أي باختصار جاءت الدولة الاردنية، التي تنهل هي، أيضاً، من مناهل ثقافية واجتماعية شبه بدوية، لتذويب ما سماه ابن خلدون العصبية الصغرى، أي العصبية القبلية، في عصبية كبرى، هي عصبية الدولة.


لعل الإنجليز، بما عُرِف عنهم من دهاءٍ وصبرٍ يشبهانِ دهاء البدوي وقدرته على التحمّلِ، كانوا أكثر الذين عرفوا الصحراء العربية وعاشروا البدو، لذلك ربطوا البدو بالأميرِ مباشرةً، كشيخٍ أعلى لهم، لا بالدولة الناشئة نفسها، لا بالأرض. فالبدو لم يعرفوا، بالمفهوم الذي نتداوله الآن، الولاء لـ "وطن محدد". فليس لهم وطنٌ ثابتٌ أو أرض محددة لا يبرحونها، وطنهم هو، إلى حد كبير، عشيرتهم نفسها، وعالمهم هو عالم تحالفات أو عداوات العشيرة، ورُغم أن السلالة الهاشمية التي أسست الكيان الأردني عام 1921 ليست بدوية المنشأ، بل من الحجاز، الجزء الأكثر تمديناً في شبه الجزيرة العربية، إلاّ أنهم أعطوا البدو انطباعاً، دائماً، بأنهم مثلُهم... ومنهم.


هذا الانطباع عن "بداوة" الهاشميين عزَّز أكثر، عند بدو الأردن، بعدهم السلالي الديني، الذي، ربما، لم يكن كافيا، وحده، ليجمع حولهم هذه القبائل التي لم تعترف، من قبل، بسيادة أحد عليها بما في ذلك "الباب العالي"، ويغرس البذرة الأولى للدولة الأردنية. لم يكن البدو، عندما قرر الأمير عبد الله بن الحسين وضع النواة الأولى للكيان الأردني الحاضر، غريبين عن الهاشميين. فقد سبق لبعضهم الانخراط في "الثورة العربية الكبرى" التي قاد لواءها شقيقه الأمير فيصل، وعمل بمعية لورنس العرب لإخراج العثمانيين من الأردن وصولاً الى سورية. 
والطريف في الأمر أن التمردات الأولى على الدولة الأردنية الطالعة من رحم "سايكس بيكو" لم يقم بها البدو الرحل بل بعض البدو المستوطنين كـ "العدوان"، أو فلاحون كالشيخ كليب الشريدة في منطقة الكورة، شمالي الأردن، فربما اعتبرت هذه القبائل المستقرة، إضافة إلى عشائر فلاحية، مجيء الهاشميين، بمن معهم من العرب، ومحاولة تشكيلهم زعامة وكيانا جديدا، تحديا لسلطتها على مجالها وإضرارا بمصالحها، بينما لم تر القبائل البدوية الصرف الأمر على هذا النحو، فهم يسيطرون على مجال لا ينافسهم عليه أحد (إلى حين طبعا): الصحراء.



بداوة ثقافية

ليس صعبا على زائر المناطق الصحراوية الأردنية (وفي هذه الحالة رحلتي من عمان إلى المفرق) أن يلحظ، حتى من شباك سيارة، التغير الذي طرأ على المكان. فقد زادت البيوت المشيدة بالإسمنت وقَلَّت، إلى حد الندرة، بيوت الشعر البدوية التقليدية، التي تصنع، عادة، من شعر الماعز أو وبر الجمال. 
من قبل لم يكن لهذه الأرض مالك.. فمعظمها أميري، أو مشاع، ولم تكن لها أية قيمة مالية تذكر. فمن يشتري صحراء؟! لكن مع تمدد المدن الأردنية وتوطين البدو الذي تواصل على مدى نصف قرن، ثم مجيء مئات الآلاف من حاملي الجنسية الأردنية من الكويت، بعد حرب الخليج، وشراء بعضهم مساحات كبيرة من أراضي البادية الشمالية وتحويلها مزارع، صارت لهذه الأرض قيمة ولها مالكون استقروا فيها، نهائياً. وعليّ، هنا، أن أشير إلى أن البداوة بمعناها الإنتاجي لم تعد طراز حياة إلاّ لعدد قليل من الأردنيين بيد أن كل المتحدرين من أصول بدوية، حتى وإن كانوا يقطنون فيللا في عمان أو غيرها من المدن الأردنية، يعتبرون أنفسهم بدواً ويرفضون أية تسمية أخرى لأنفسهم.
البداوة، هنا، أصل ونسب، ومن يتنكر لأصله فلا أصل له!
 هذا ما يمكن أن يقوله لك طفل من "العدوان" أو "الحديد" أو "العبابيد" وهي من أقدم القبائل الأردنية المتوطنة والمستقرة، نهائيا، في أمكنة غير صحراوية مثل البلقاء.
 ولعل هذا ينطبق، أيضا، على العشائر المسيحية سواء تلك التي تقيم في البلقاء أو الكرك.. وتفخر في اندراج جانب من ثقافتها في الفضاء البدوي. 
ولعل إلقاء نظرة على قائمة مؤلفات الشخصية الثقافية الأردنية المسيحية البارزة روكس بن زائد العزيزي التي تضم مصنفات لها علاقة بعالم البدو والبادية في الأردن وصلة العشائر المسيحية بهما، خير دليل على ذلك. (تذكروا، هنا، انتصاره للشاعر البدوي علي الرميثي الذي "سطا" إيليا أبي ماضي على واحدة من أجمل قصائده، بل أجمل قصائد الشعر البدوي، وصنع منها قصيدته الشهيرة "الطين").
 ويبدو أن الدولة الأردنية نجحت، على مدار السنين، في جمع متناقضين لا يجتمعان: ربط البدوي بالأرض أو الوظيفة الحكومية (الجيش غالبا) مما ينفي عنه إحدى أبرز صفات البداوة ألا وهي الترحال، والإبقاء على قيمه الثقافية البدوية والاعتزاز بها. فالأردن الرسمي يفخر في كونه بدويا ولكنه، للمفارقة، بلا بدو فعليين. 
وهذا ما يمكنني أن أسميه: بداوة ثقافية.
المساهمون