البحث عن منفى

05 نوفمبر 2015
لا أجزمُ أنّني أكثرهم وجعاً (الفيسبوك)
+ الخط -
(1)
بيروت المدينةُ المتناقضة، خيمتُنا التي انكسرَ وتدُها فلفظتنا إلى رحلاتِنا الأخيرة، بيروت حيثُ الشروقُ رفيقُ الوحدة، والغروبُ طقسٌ للمجاز المرّ، وحيث أبحثُ عن جواز السفر، تذكرة النجاةِ الوحيدة التي نجحتُ بعد عناءٍ طويل في الحصولِ عليها، لم أوفّر وقتاً لقطع تذكرةِ سفرٍ إلى تركيا، من هناك سأدخلُ إلى أهلي، لولا أنّ الطريقَ ستأخذُ منحى المهاجرين بحثاً عن المنفى، فالخليفةُ يشحذُ سيفَهُ بأنيابِ الطاغية وينتظرانِ على المداخلِ التي سُدّت بفعلِ اليأس.


(2)
لا أُنكرُ أنّني أكثرُ الناسِ كذباً، ولا أجزمُ أنّني أكثرهم وجعاً، لكنّني كذلك، حقيبتي ملأى بتفاصيلَ لا تستطيعُ قارات أوروبا والأميركتين أن تنجبَ نصفَها، وقلبي المغزولُ بحريرِ الحجرِ الأبيضِ وشروق مرماهُ يتناقصُ نبضُهُ كلّما عبرتُ دولةً باتجاهِ ما نسمّيه مجازاً؛ حياة. كم كنتُ أرفضُ هذهِ الحياة، لكنّها باتتْ خياريَ الأخيرَ، وصارتْ حقيبتي كمسرحِ الظلّ، أضعُ رأسي بها وأبحرُ على خشبتِها التي تنزفُ ذكرى من عيني اليمنى، فيغدو الظلّ مطراً.

(3)
الطائرة تأخرت ساعتين، لا يهم لمَنْ تحمّل أحد عشر شهراً، أحدَ عشرَ شهراً أنجبتْ لاوطناً، أنجبت رحلةً باتجاهِ المجهولِ ولكن دون وداعٍ هذه المرة، كم يفيد العقر في مثل هذه الحالات!

السادة ركاب أضنة الرجاء الاتجاه عبر البوابة رقم (11)، يتحدث مكبرُ الصوت، سأغادر بيروت من بوابةٍ تحمل عدد الأشهر التي عشتُها فيها، ختمتْ موظفة الأمن العام السمراء على جواز سفري ختماً كُتبَ عليه: (cancelled)، الختم الأول الذي يتلقاه هو منعٌ من العودة، لا بيروتَ بعدَ اليوم، لا شاي مخمّرا، ولا قصائدَ يبدؤها شارعُ "مونو" وتنهيها ساحرات بار "تايجا" جاريَ الواقفُ أمام إطلالَتي على جامع الأمين وجريدة النهار، لا بيروت.

(4)
ليلٌ خائفٌ من صوتِ أمواجهِ، (إيجة) بحرُ الرثاءِ الكاملِ، مدٌّ وجزرٌ في تفعيلة المنفى، ضاعِت القِبلةُ يا بلادَ الحائرين الضائعين، ضاعت صلواتنا سدىً، ضاعَ الأمسُ واليومُ والغد. نبحرُ نحوَ الأسودِ الكحليّ، نحو إغريقِ الضياعِ، والريحُ تعصفُ بالملحِ كي تحركَ شهوةَ الموتِ فنغرق. ستُ ساعاتٍ في عرضِ أمواجِه المتراقصةِ، كانَ وجهكِ بحراً وكنتُ بحّاراً لا يجيدُ سواكِ، لن أموتَ إذا غرقْتُ، أنا سيزيفكِ يا شمسَ إيجة، أشرقي، أنا أودوسيوس يا بحر.

كرّرنا محاولةَ العبورِ، عبرنا إذاً في هدأةِ الشبق، عبرناكَ يا بحرُ، ومشينا بخطواتِنا العرجاءِ نحوَ التفاصيلِ المهملة، مشينا حفاةً من تفاصيلِ البلاد، كمْ من الألمِ سيثقبُ أرواحَنا حينَ نبصرُ كلّ المتعاطفينَ معنا، متعاطفينَ فقط لأنّنا لاجئون، كم سنبكي والدمعُ ذكرى، يا ليتها كانتْ سراباً أغنياتُكِ، يا ليتني ما كنتُ ابنكِ يا بلاد.

(5)
الآنَ بعدَ الموتِ، أرمقُ وجهيَ الأسمرَ في كفّ أثينا شاحباً، أقلّبُ الأسماءَ في رأسي المتآكلِ؛ سورية... سورية.. أعيدُ ما فعلتُ مرةً أخرى، لم أجدْ سوى اسمكِ يا صبية، كلّ أسماءِ النساءِ اللائي أحببْتهنَّ، أحببْتُهنَّ من طرفٍ واحدٍ إلا أنتِ كانَ حُبّاً من طرفٍ خالد.

كان صديقي نوري يعيّرني بعبارةٍ تتهكّمُ على قلبيَ المتعبِ، وُشِمَتْ في الذاكرة، وصارتْ نشيداً: "شحّاذ الحبّ".
نعم أنا شحّاذ الحبّ، أريدُ وطناً وبعضاً ممّا تحويهِ حقيبتي التي أنامُ عليها في خيمةٍ لا تتسعُ لأكثرَ من اثنين في الشمالِ الفرنسيّ، أريدُ حبّاً لا تتنازلُ الرواياتُ أن تكتبَ عنهُ لأنّ قصتَهُ أربعة أحرفٍ وحزن، أريدُ وجهَكِ واضحاً كاسمِكِ.

(6)
أضعُ يدي اليمنى على الجهةِ اليسرى من صدري وأُحدثُ ثقباً، أنتزعُ قلبي وأطعنهُ ثمّ أرميهِ للريحِ، أكتبُ اعتذاراً لدرويش بدمي، ثم أخطّط بقصبةِ الزلّ التي أهداني إياها "العليان" أحرفَ الديواني: "ليسَ للسوريّ إلا الريح".

أستعرض خيباتي على رصيفٍ تتبوّلُ كلّ الكلابِ عليه، أضع قبعتي المهترئة أمامي، أقف تحت مظلات الشوق، وأعزفُ على أوتاري المقطوعة منتظراً قطعةَ مواساةٍ واحدة أو وردةً حمراءَ ذابلة، وعبثاً يمرون ببصيرةٍ عمياءَ، يدوسونَ على القبعة وعلى شرخٍ ينزفُ من ذراعِ الخيبةِ/ ذراعي، فأغنّي بلغةٍ عصيّة الفهمِ عليهم: "بس اللي مضيع وطن وين الوطن يلقاه؟".

(سورية)
المساهمون