13 نوفمبر 2024
البحث عن التّسوية التاريخية في الجزائر
على وقع الحراك المستمرّ في الجزائر منذ سبعة أشهر، وصلت الأمور إلى انسداد حقيقي مع إصرار السّلطة على المسار الانتخابي، وتعنت الحراكيين في رفض المسار ذاته، في حال تمّ كما هندست له السّلطة، شكلا ومضمونا، لأنّ ذلك، وفق ما يرون، لن يؤدّي إلّا إلى تجديد النّظام لنفسه. ولم ينتج الحراك، إلى الآن، إلا نصف المرغوب، أي دخول جزء من العصابة السجن، في حين أنّ رمزية المرغوب هو الوصول إلى تلبية بقيّة المطالب بمخارج، من نتائجها تغيير النظام، ما دامت الفرصة التاريخية قائمة.
تلقي المقالة الضوء على حقيقة الجدال الجاري بين السّلطة والحراك، وفرصة التسوية التاريخية التي يجب تحيّنها لإنجاز المشروع التّغييري الذي يريده الجزائريون لبلدهم الذي فيه من الخيرات ما يكفي للعيش بكرامة للجميع.
ليكن المنطلق الحال الذي عليه البلاد منذ الاستقلال في ظلّ فلسفة حكامةٍ لا تنظر إلا بعين واحدة، عين من هو في السّلطة وبيده أدوات القوّة، دونما مجال لأحد للوصول إلى المشاركة في تلك الحكامة. وما زاد الطّين بلّة أنّ تلك الحكامة المستبدّة تم إرفاقها، منذ وفاة الرئيس بومدين في 1978، بفساد لم نصل، إلى الآن، إلى قياس مداه وعمقه، وأدّى بالبلاد إلى انتفاضة 1988 والانفراجة الديمقراطية التي تمّ التلاعب بها بأداة الاستقطاب، بين العلمانيين والإسلاميين، لينتهي الأمر بالجزائر إلى عشرية سوداء، ما زالت آلامُها ومآسيها في ذاكرة كلّ الجزائريين.
انتهت تلك العشرية بآمالٍ ظنّ الجزائريون أنّهم قد يصلون فيها إلى العيش بسلام، لكن ما قابلهم هو كابوس الحكم البوتفليقي لعشريتين، تم تبديد المال فيهما ببذخ لم يُعهد أبدا، وتسطير صور
حكامةٍ من الفساد والاستبداد لا يمكن تصور أنّ الجزائر ستخرج منهما سالمةً بسهولة ويسر.
ولو حاولنا تشريح تلكما العشريتين، لما وجدنا أحسن ممّا قاله الخبير الاقتصادي، عبد الرحمن مبتول، واصفا الجزائر، في دراسة له نشرها في 2010، بكلّ أسف: "لم تتحرّك الجزائر قيد أنملة منذ 1963". وهو تشريحٌ يفسّر، بحقّ، ذلك التعنّت الذي يبدو في شعارات الحراك بشأن مطلب تنحّي كلّ رموز النّظام البوتفليقي. كيف لا يكون الأمر كذلك، وأقلّ ما تمّ ذكره، في ما يخصّ المال المنهوب، هو ترليون دولار، لم يظهر لها أثر على التنمية وتغيّر وجه البلاد على الأصعدة كافّة.
ولا يمكن تكملة ذلك التّشريح من دون الإشارة إلى درجة الرّداءة في الممارسة السياسية التي وصل إليها النّظام في فترة حكم الرّئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة، وهي رداءة أحسن قائد الأركان، أحمد قايد صالح، وصفها، عندما قال عنها إنّها "عصابة" شكلا، و"قوى غير دستورية" مضمونا، رهنت البلاد، ظلمت العباد، وتدحرجت بالجزائر إلى ذيل التصنيفات العالمية في كل شيء.
بالنتيجة، جاء الحراك ليمنع إسفاف تلك الرداءة المتمثّلة في العهدة الخامسة التي كانت تُراد للرئيس بوتفليقة، وكلّ ما ترمز إليه من عبادة "الإطار" و"الصورة" اللتين حكمتا البلاد أكثر من ست سنوات بسبب مرض الرّئيس المستقيل، وعجزه عن أداء مهامه. ولذلك فانّ ذهاب تلك الرّموز وتلك الرّمزيات هو عين مطالب الحراك، وهو مرادف لتغيير النّظام بمقاربة تجمع بين آلية الانتخـــاب وغيرها من آليات: تعديل الدستور، التفكير في بناء/ هندسة جديدة للمؤسّسات، إضافة إلى تصوّر مستقبل البلاد على كل المستويات والأصعدة.
أمّا السّلطة فإنّها، بعد دفع الرّئيس السّابق إلى الاستقالة، ومرافقة الحراك لإنجاز القطيعة مع بوتفليقة الشّخص، ظهر لها أن تنطلق في مسار تقول عنه إنّه دستوري، وآليته الوحيدة هي الانتخابات في أقرب الآجال، وإن جرت في ولاية الحكومة التي عيّنها الرئيس المستقيل قبل ذهابه.
وعلى الرّغم من نقائص تلك الآلية الانتخابية، بالشّكل الذي تمّ على أساسه استدعاء الهيئة الناخبة من نصين تشريعيين (قانوني الانتخابات والهيئة الوطنية المستقلة لتنظيم الانتخابات)، تمّت المصادقة عليهما في أقلّ من أسبوع، إلا أنها ضرورية وملحّة، بالنّظر إلى معطياتٍ كثيرة، ولكنها لن تكون كذلك إلا إذا جاءت مُتّممة بإجراءات كفيلة بأن تحقّق الجزء المتبقّي من مطالب الحراك، أي اختيار رئيس شرعي، ولكن بانتخابات نزيهة، نظيفة وشفافة، حقيقة لا مجازا.
تتمثّل تلك الإجراءات في ما يطالب به الحراك، وفي مقدمة ذلك كلّه إجراءات التّهدئة، ذهاب الحكومة، إجراء حوار حقيقي بشأن الضّمانات التي يجب أن تلفّ مسار الانتخابات حتّى تُخرج للجزائر رئيسا شرعيا، وأخيرا، تعهّد من المترشّحين بتجسيد مطالب الحراك الأساسية: تعديل الدّستور، تصوّر الجزائر الجديدة، تصور مستقبل البلاد في الإقليم والخروج من الريع النّفطي، بعد الرّئاسيات.
هل نملك الوقت والجهد اللاّزمين لإنجاز التّسوية التّاريخية بين الطّرفين، تسوية تحقّق المرغوب، أي انتخابات وتغيير للنظام، في آن، مع بوصلة حيوية هي أمن البلاد، أوّلا وأخيرا؟ الجواب،
حتما، نعم، وكلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ الجزائر في الطّريق إلى ذلك، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة أن تجري الانتخابات في موعدها. هذا هو اليقين الوحيد الذي تُبنى، على أساسه، تلك التّسوية التي يجب أن توصف بأنها تاريخية، لأنّها ستقرّب الجزائريين وتوصلهم إلى الهدف المحوري، تغيير النظام، حقيقة لا مجازا، أيضا.
على الجهة الأخرى، يجب تهيئة الأجواء، قدر الإمكان، لحوار حقيقي مع تعيين ممثّلين للحراك، وامتداداته في الطبقة السياسية والمجتمع المدني، يحملون شعاراته ومطالبـــه، وجاهزون لتلك التسوية التي على السّلطة إبراز نيتها في الذّهاب إليها، مع إعلان إجراءات التّهدئة وفتح الباب أمام توفير الضّمانات الكفيلة بإجراء الانتخابات في موعدها، وبالشروط التي تحقّق النزاهة، الشفافية والمشروعية للرّئيس القادم مع تحقيق تغيير النّظام كلياً.
من مبادئ السياسة أنّها فن الممكن، ولا يمكن التخندق، على الدوام، في إطار مواقف تُوصف بأنّها أساسياتٌ لا تقبل النّـقاش ولا المفاوضة، وتستدعي هذه الحقيقة أنّ كلّ شيءٍ قابل للبحث مع شرط توفّر النية الطيبة لدى الجميع، وبضمانات الشخصيات الوطنية الصادقة التي يمكن أن تجعل من المستحيل، الآن، ممكنا الوصول إليه، والمصلحة الحيوية هي الوطن والاستقرار مع تحقيق المرغوب الذي يأمل فيه الجزائريون كلهم، حراكا وسلطة.
تلك هي الخطوط العريضة للتّسوية التاريخية التي على الجزائريين الاتفاق للوصول إليها، حتما، في القريب العاجل، لأنّ المكاسب ستطاول الجميع وفائدتها الكبرى للجزائر التي ستخرج من الانسداد وتصل إلى برّ الأمان، البر الذي تصبح فيه قوة حقيقية بسواعد كل أبنائها.
للعلم، حدثت هذه التسوية، في وقت سابق، حين انطلقت الثورة التحريرية، في 1954، عندما اتفق الجميع على تشكيل جبهة لمحاربة فرنسا وتحقيق الاستقلال، ومن جسّد ذلك، سابقا، يمكنه فعل ذلك حاضرا، لأنّ التّحديات والرّهانات نفسها تولّد الهمم نفسها.
ليكن المنطلق الحال الذي عليه البلاد منذ الاستقلال في ظلّ فلسفة حكامةٍ لا تنظر إلا بعين واحدة، عين من هو في السّلطة وبيده أدوات القوّة، دونما مجال لأحد للوصول إلى المشاركة في تلك الحكامة. وما زاد الطّين بلّة أنّ تلك الحكامة المستبدّة تم إرفاقها، منذ وفاة الرئيس بومدين في 1978، بفساد لم نصل، إلى الآن، إلى قياس مداه وعمقه، وأدّى بالبلاد إلى انتفاضة 1988 والانفراجة الديمقراطية التي تمّ التلاعب بها بأداة الاستقطاب، بين العلمانيين والإسلاميين، لينتهي الأمر بالجزائر إلى عشرية سوداء، ما زالت آلامُها ومآسيها في ذاكرة كلّ الجزائريين.
انتهت تلك العشرية بآمالٍ ظنّ الجزائريون أنّهم قد يصلون فيها إلى العيش بسلام، لكن ما قابلهم هو كابوس الحكم البوتفليقي لعشريتين، تم تبديد المال فيهما ببذخ لم يُعهد أبدا، وتسطير صور
ولو حاولنا تشريح تلكما العشريتين، لما وجدنا أحسن ممّا قاله الخبير الاقتصادي، عبد الرحمن مبتول، واصفا الجزائر، في دراسة له نشرها في 2010، بكلّ أسف: "لم تتحرّك الجزائر قيد أنملة منذ 1963". وهو تشريحٌ يفسّر، بحقّ، ذلك التعنّت الذي يبدو في شعارات الحراك بشأن مطلب تنحّي كلّ رموز النّظام البوتفليقي. كيف لا يكون الأمر كذلك، وأقلّ ما تمّ ذكره، في ما يخصّ المال المنهوب، هو ترليون دولار، لم يظهر لها أثر على التنمية وتغيّر وجه البلاد على الأصعدة كافّة.
ولا يمكن تكملة ذلك التّشريح من دون الإشارة إلى درجة الرّداءة في الممارسة السياسية التي وصل إليها النّظام في فترة حكم الرّئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة، وهي رداءة أحسن قائد الأركان، أحمد قايد صالح، وصفها، عندما قال عنها إنّها "عصابة" شكلا، و"قوى غير دستورية" مضمونا، رهنت البلاد، ظلمت العباد، وتدحرجت بالجزائر إلى ذيل التصنيفات العالمية في كل شيء.
بالنتيجة، جاء الحراك ليمنع إسفاف تلك الرداءة المتمثّلة في العهدة الخامسة التي كانت تُراد للرئيس بوتفليقة، وكلّ ما ترمز إليه من عبادة "الإطار" و"الصورة" اللتين حكمتا البلاد أكثر من ست سنوات بسبب مرض الرّئيس المستقيل، وعجزه عن أداء مهامه. ولذلك فانّ ذهاب تلك الرّموز وتلك الرّمزيات هو عين مطالب الحراك، وهو مرادف لتغيير النّظام بمقاربة تجمع بين آلية الانتخـــاب وغيرها من آليات: تعديل الدستور، التفكير في بناء/ هندسة جديدة للمؤسّسات، إضافة إلى تصوّر مستقبل البلاد على كل المستويات والأصعدة.
أمّا السّلطة فإنّها، بعد دفع الرّئيس السّابق إلى الاستقالة، ومرافقة الحراك لإنجاز القطيعة مع بوتفليقة الشّخص، ظهر لها أن تنطلق في مسار تقول عنه إنّه دستوري، وآليته الوحيدة هي الانتخابات في أقرب الآجال، وإن جرت في ولاية الحكومة التي عيّنها الرئيس المستقيل قبل ذهابه.
وعلى الرّغم من نقائص تلك الآلية الانتخابية، بالشّكل الذي تمّ على أساسه استدعاء الهيئة الناخبة من نصين تشريعيين (قانوني الانتخابات والهيئة الوطنية المستقلة لتنظيم الانتخابات)، تمّت المصادقة عليهما في أقلّ من أسبوع، إلا أنها ضرورية وملحّة، بالنّظر إلى معطياتٍ كثيرة، ولكنها لن تكون كذلك إلا إذا جاءت مُتّممة بإجراءات كفيلة بأن تحقّق الجزء المتبقّي من مطالب الحراك، أي اختيار رئيس شرعي، ولكن بانتخابات نزيهة، نظيفة وشفافة، حقيقة لا مجازا.
تتمثّل تلك الإجراءات في ما يطالب به الحراك، وفي مقدمة ذلك كلّه إجراءات التّهدئة، ذهاب الحكومة، إجراء حوار حقيقي بشأن الضّمانات التي يجب أن تلفّ مسار الانتخابات حتّى تُخرج للجزائر رئيسا شرعيا، وأخيرا، تعهّد من المترشّحين بتجسيد مطالب الحراك الأساسية: تعديل الدّستور، تصوّر الجزائر الجديدة، تصور مستقبل البلاد في الإقليم والخروج من الريع النّفطي، بعد الرّئاسيات.
هل نملك الوقت والجهد اللاّزمين لإنجاز التّسوية التّاريخية بين الطّرفين، تسوية تحقّق المرغوب، أي انتخابات وتغيير للنظام، في آن، مع بوصلة حيوية هي أمن البلاد، أوّلا وأخيرا؟ الجواب،
على الجهة الأخرى، يجب تهيئة الأجواء، قدر الإمكان، لحوار حقيقي مع تعيين ممثّلين للحراك، وامتداداته في الطبقة السياسية والمجتمع المدني، يحملون شعاراته ومطالبـــه، وجاهزون لتلك التسوية التي على السّلطة إبراز نيتها في الذّهاب إليها، مع إعلان إجراءات التّهدئة وفتح الباب أمام توفير الضّمانات الكفيلة بإجراء الانتخابات في موعدها، وبالشروط التي تحقّق النزاهة، الشفافية والمشروعية للرّئيس القادم مع تحقيق تغيير النّظام كلياً.
من مبادئ السياسة أنّها فن الممكن، ولا يمكن التخندق، على الدوام، في إطار مواقف تُوصف بأنّها أساسياتٌ لا تقبل النّـقاش ولا المفاوضة، وتستدعي هذه الحقيقة أنّ كلّ شيءٍ قابل للبحث مع شرط توفّر النية الطيبة لدى الجميع، وبضمانات الشخصيات الوطنية الصادقة التي يمكن أن تجعل من المستحيل، الآن، ممكنا الوصول إليه، والمصلحة الحيوية هي الوطن والاستقرار مع تحقيق المرغوب الذي يأمل فيه الجزائريون كلهم، حراكا وسلطة.
تلك هي الخطوط العريضة للتّسوية التاريخية التي على الجزائريين الاتفاق للوصول إليها، حتما، في القريب العاجل، لأنّ المكاسب ستطاول الجميع وفائدتها الكبرى للجزائر التي ستخرج من الانسداد وتصل إلى برّ الأمان، البر الذي تصبح فيه قوة حقيقية بسواعد كل أبنائها.
للعلم، حدثت هذه التسوية، في وقت سابق، حين انطلقت الثورة التحريرية، في 1954، عندما اتفق الجميع على تشكيل جبهة لمحاربة فرنسا وتحقيق الاستقلال، ومن جسّد ذلك، سابقا، يمكنه فعل ذلك حاضرا، لأنّ التّحديات والرّهانات نفسها تولّد الهمم نفسها.