البؤرة الأولى

13 نوفمبر 2016
جاء وقت كان هناك شعر عن الخيام (Getty)
+ الخط -
كم مرة سمعت هذا التعبير "خيمة عن خيمة تفرق" الذي نحتته "أم سعد"، بعاميّة بليغة، في رواية غسان كنفاني، دامغةً حقبةً كان للخيمة فيها أكثر من معنى؟ كثيرون استخدموه للدلالة على حالين وواقعين للخيمة. في الرواية تقول أم سعد، التي يصفها غسان بأنها امرأة "حقيقية"، إن ابنها، سعد، غادر المخيم. لا تبدو قلقة، أو مستاءة. بل العكس تشكو "الذلّ" الذي يجرّه الأطفال على ذويهم (تعني إعالتهم) فلولاهم لانضمَّت هي، أيضاً، إليه. تتساءل أمام ترقّب الراوي: خيام؟ وتضيف: ولكن خيمة عن خيمة تفرق.
لبضعة أجيال لم تر ذلك المنظر، حتى في الصور، نذكِّر أن الفلسطينيين الذين طردوا من مدنهم وبلداتهم وقراهم تحت طائلة المجازر، إلى جزء آخر غير محتل من أرضهم (الضفة الغربية وقطاع غزة) أو إلى دول الجوار، أقاموا في خيام الإغاثة. كانت تلك الخيام التي نصبت لجموعهم المنهكة، المتدفقة عبر الحدود "مؤقتة". سميت مخيمات لأنها كانت خياماً تصطفق في الريح. وكانت قريبة من الحدود مع فلسطين.. على أمل العودة السريعة إلى بلادهم على بعد بضعة كيلومترات من أماكن إيوائهم.
من طبيعة المخيم أن يكون مؤقتاً. لا أحد يعيش في مخيم على مدى بعيد. حتى بيوت الشعر البدوية التي تشاطر المخيم الأعمدة والأوتاد تشاطره فكرة المؤقت والزائل، لا المستمر والباقي. لكن المؤقت طال. المفاتيح التي حملها اللاجئون في جيوبهم، أو أعناقهم، على أمل العودة، صدئت. والخيام راحت تتفكك شيئاً فشيئاً ليحل محلها الصفيح والإسمنت، ما يجعل الإقامة محتملة، أكثر من الخيمة. فلا شيء يلوح من جهة الأمم المتحدة إلا مواد الإغاثة، ولا شيء يأتي من جهة الجامعة العربية التي تحوَّلت القضية الفلسطينية الى ملف في أدراجها.
جاء وقت كان هناك شعر عن الخيام. ورسم. وسرد بلغ ذروته في رواية غسان كنفاني "أم سعد". اختفت الخيام من الشعر والسرد والقصة القصيرة والتشكيل ليحل محلها المخيم باعتباره بؤرة اللجوء الفلسطيني وعنوانه. من هذا المخيم، داخل ما تبقى من فلسطين والخارج على السواء، ولدت شرارة الثورة. معظم قادة الثورة الفلسطينية الثانية (ثورة منظمة التحرير) جاؤوا من مخيمات. وسيكون لهذه الثورة عنوانان: المخيم و"القاعدة" التي ستكون نقطة تجميع وتدريب وانطلاق للعمليات الفلسطينية عابرة الحدود العربية في اتجاه فلسطين (غور الأردن، جنوب لبنان) إلا من أرض النظام السوري المقاوم والممانع الذي حرَّض الفدائيين على اختراق الحدود العربية باستثناء حدوده!

II
لا يزال تجمّع اللجوء الفلسطيني يحمل اسم "المخيم" رغم عدم وجود خيمة واحدة فيه. ولا يزال الاسم يحيل إلى المؤقت رغم مضي أكثر من سبعة عقود على دقّ أول وتد في تلك الأرض. ولكن هل لا يزال المخيم يلعب الدور الذي لعب في الثورة الفلسطينية الثانية؟ المواجهات التي حدثت بين قوات الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين كان المخيم مصنعها.
لنتذكر، مثلاً، مخيم جنين الذي لعب دوراً بطولياً في الانتفاضة الفلسطينية الثانية. لقد تلقى مخيم جنين عقاباً جماعياً يرقى إلى مستوى جرائم حرب دولية. قد تكون المدينة، وهي غالباً امتداد للمخيم، دجّنت في عهد السلطة غير الميمون لكن المخيم سيظل بؤرة أي حراك فلسطيني. حدث هذا غير مرة. ولا مرة خيَّب المخيم نداء فلسطين التي يجري نسيانها، عربياً، وتناسيها فلسطينياً رسمياً. ما دام المخيم موجوداً، رغم كل التحولات التي طرأت عليه معنى ومبنى، فهو تذكرةٌ بما جرى. فلا أحد ينتسب الى مخيم. سيظل يردك المخيم إلى نسبك الأول.

المساهمون