لم تكن الانتفاضة اللبنانية التي اندلعت في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عادية في أوجهها الكثيرة، بل أفضت إلى كسر العديد من الحدود، المصطنعة أصلاً بين اللبنانيين. عملياً، لم تشهد البلاد أمراً مماثلاً طوال تاريخها، خصوصاً مع توزّع ساحات المنتفضين في مناطق اعتُبرت "ممنوعة" أو "ذات خطوط حمر" أو محسوبة على طوائف وأحزاب محددة. شكّلت هذه النقلة صدمة حقيقية لأحزاب السلطة الطائفية، التي سعت إلى حصرها ومنعها من التمدّد، تحت عناوين عدة، تبدأ من تخوين المنتفضين وتنتهي بالتلويح بالحرب الأهلية.
في الشمال اللبناني، برزت مدينة طرابلس كـ"عروس للثورة"، متخطية عقبات عدة واتهامات عشوائية. المدينة صنّفتها أوساط حزب الله، في مراحل سابقة، بأنها "قندهار" لبنان، للإشارة إلى وجود تنظيمات وعناصر متشدّدين فيها، إلى حدّ السعي إلى عزلها عن باقي محيطها الجغرافي والديمغرافي. وقد ساهم العديد من السياسيين والأحزاب في تظهير هذه الصورة، منهم من هم داخل المدينة، ومنهم من هم خارجها. كذلك غرقت المدينة في حربها الخاصة، بين حيّي جبل محسن ذات الغالبية العلوية وباب التبّانة ذات الغالبية السُّنية، وهي الحرب التي استمرت بشكل متقطع بين عامي 2008 و2014، وسقط فيها مئات الضحايا وآلاف الجرحى. مع العلم أن القاسم المشترك بين الحيين هو الفقر المدقع، فالمقاتلون غير قادرين أساساً على شراء ربطة خبز، فكيف بالأسلحة؟ بعد 17 أكتوبر تغيّرت أشياء عدة. المدينة المعروفة بوجود العديد من النواب والوزراء الأثرياء فيها، كسرت المحظورات، وأحرقت صور الزعماء، وبدأت مسيرتها الخاصة في تكوين مسار جديد يشبهها.
في النبطية وصور، في الجنوب اللبناني، برز أهلها كثوار حقيقيين. فقد خرجوا على الثنائي حزب الله وأمل، واستهدفوا مراكز ومقرات واستراحات تابعة لهم. لم يستسغ الحزبيون ذلك، فباشروا القمع المدعوم من الأجهزة الأمنية. اعتُقل العشرات بسبب تظاهراتهم، فضلاً عن الضرب وإطلاق النار والتهديدات التي كيلت للمتظاهرين. في صيدا، تحوّل دوّار إيليا إلى مركز للمنتفضين، الذين رفعوا شعارات جامعة، خارج الإطار الصيداوي البحت. في حاصبيا، في الجنوب اللبناني، كان واضحاً أن من تحرّك يرفض أي سطوة للحزب التقدمي الاشتراكي، ويطالب بمحاسبة الفاسدين، وهو الأمر الذي برز في بعقلين وكفرحيم، المنطقتين المحسوبتين تاريخياً على الاشتراكيين. كان رئيس الحزب، وليد جنبلاط، مرحّباً بالانتفاضة، لكنه سرعان ما انقلب عليها، لكونها اتجهت ضده.
أحيت الانتفاضة اللبنانية، الحركة الطلابية، التي لم تشارك لنصرة فريق على آخر، بل لكسر الحدود الطائفية ومواجهة الفساد. الفساد موجود في المناهج التعليمية أيضاً. حاولت السلطة قمع الانتفاضة، أحياناً بالاستدعاءات الأمنية وبالشبيحة. البعض تعرّض للمتظاهرين وضربهم وسجّل أفلاماً حول كيفية تعرّضهم لذلك، ولم تحرّك السلطة ساكناً. ساحات رياض الصلح والشهداء في بيروت، والعلم في صور، والهرمل في البقاع، وعاليه في الجبل، كانت شاهدة على اعتداءات أنصار السلطة على المتظاهرين. لم يكن الأمر عفوياً، بل كان جزءاً من منظومة عمل أحزاب السلطة. حتى إن البعض من الذين يُعتبرون معارضين للسلطة، حاولوا استغلال الانتفاضة، والمشاركة فيها، لكن المنتفضين كانوا أكثر وعياً منهم. في الشهر الأول على الانتفاضة اللبنانية، بات أكيداً أن رهانات السلطة سقطت، وأنها غير قادرة على مواكبة تطلعات الشعب، حتى أن الورقة المذهبية باتت من الماضي. وفي كل ليلة تحاول فيها السلطة ممارسة المزيد من القمع ضد شعبها، يأتي من يقرع الطناجر ليلاً ليُذكرها بأن نهايتها اقتربت.