30 مارس 2020
الانتخابات وأمراض العراق السياسية
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
هل الانتخابات العراقية مجدية؟ وهل تقدم فعلاً سبيلاً لمن يريد تغيير الأوضاع في العراق إلى الأفضل بطريقة ديمقراطية؟ أم أن الدعوة إلى مقاطعتها، والتي يرفعها ناشطون ومثقفون عراقيون مبرّرة؟ على طريق الإجابة على هذه الأسئلة التي تطرح، مع اقتراب الانتخابات العراقية، يجب تثبيت حقيقة أن الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تمثل قوة الضغط الأكبر التي تفرض إجراء الانتخابات في وقتها، تلك حقيقةٌ، تغيرت الإدارات الأميركية أو لم تتغير، إذ أصبحت من ثوابت السياسة الأميركية في العراق، فمن بين الكوارث المتسلسلة التي حلت بالعراق منذ عام 2003 يبرز إجراء الانتخابات في وقتها نقطة وحيدة، تستطيع أميركا أن تقول إنها أنجزتها على الصعيد السياسي، وتقدمها هي والسياسيين العراقيين، أو بعضهم، سنداً لمقولة إن هناك ديمقراطية في العراق.
تعرف أميركا جيداً أن الديمقراطية في المفهوم والممارسة أكبر من مجرد عمليات الاقتراع، لكن الأغراض السياسية بالنسبة لواشنطن أهم وأكثر إلحاحاً من المبادئ. بل يمثل العراق، حتى لمن يمتلك حرصاً على القيم الديمقراطية في أميركا، حالة صعبة وورطة للسياسة الأميركية، تتعامل فيها وفق الحد الأدنى على أمل حدوث تحسن أو احتواء الضرر قدر الإمكان.
أما في العراق، فلا ينشغل الناس كثيراً بالجدل النظري، ولكن بالأسئلة العملية، مثل: هل ننتخب أم لا؟ وإذا انتخبنا فمن ولماذا؟ عملياً، أسست العملية السياسية في العراق، وفيها ثلاثة أمراض مزمنة يعيشها العراقيون يومياً، ولكن أعراضها تشتد مع كل موسم انتخابي، وتلك هي المحاصصة الطائفية والزبائنية، والنظام الاقتصادي القائم على امتلاك الأحزاب القوية الحاكمة للمزايا الاقتصادية وتوزيعها على أنصارها، والفساد المستشري في أجهزة الدولة. اشتداد تلك الأعراض لا يعني حكماً عدم الاكتراث بالعملية السياسية والانتخابات، بل العكس غالباً. فالأحزاب العراقية الكبيرة والمتنفذة تستند على سياسات الهوية، وادعاء التمثيل الطائفي. وفي موسم الانتخابات تكون الرسائل واضحة في تخويف الناخبين من احتمالات صعود الآخر الطائفي وتقويته.
لكن المحاصصة الطائفية والعقلية الطائفية، وهي المرض الأول، لم تكن لتعيش وتستمر بهذه القوة، لولا المرض الثاني، وهو النظام الاقتصادي الزبائني الذي كرّسهما، فالناخب العراقي، كبيراً كان ومؤثراً مثل شيخ العشيرة أو عادياً بسيطاً، يعرف تماماً أن مفاتيح الاقتصاد تكمن لدى مجموعة من قادة الأحزاب المتنفذين. وهنا يأتي المرض الثالث، وهو الفساد المستشري في أجهزة الدولة. وهنا لا نتحدث عن الفساد الصغير الذي يمارسه صغار الموظفين، بل الفساد الكبير الذي يتمثل بالعمولات الكبرى التي تدفع لكبار المسؤولين، وهو أمر أصبح معلناً ومعترفاً به، حتى من شخصياتٍ كبيرة، ولعل أشهر من تحدث عنه بوضوح كان نائب رئيس الوزراء العراقي السابق، حسين الشهرستاني، في مقابلةٍ تلفزيونيةٍ قال فيها إن معظم المسؤولين يهتمون بالعمولات أكثر من العمل الحقيقي المنجز في العقود والتعاملات التي تبرمها وزاراتهم. وربما لا نحتاج للتذكير بأن العراق، ومنذ سنوات، يعد من أكثر الدول فساداً في العالم، وفقاً للتقارير السنوية لمنظمة الشفافية الدولية. يوفر هذا الفساد إمكانات مادية كبيرة للأحزاب والقوى السياسية العراقية الطائفية، ويمثل مورداً أكبر مما تحصل عليه من الدعم المادي من القوى الخارجية غير العراقية، ولكن هذه الموارد جميعاً تعزّز قوتها وهيمنتها على المشهد الانتخابي، وصعوبة بل استحالة بروز قوى سياسية مختلفة، أو نجاحها انتخابياً.
تتمثل السمة الأهم والأوضح والأكثر طغياناً للنظام الزبائني في سيطرة قادة الأحزاب الطائفية أيضا على فرص العمل في القطاع الحكومي الكبير، والمتضخم، في العراق، وذلك عن طريق الوزراء وكبار المسؤولين الذين يعينونهم. ويمثل الحصول على فرصة عمل في الدولة هدفا كبيرا، وأحيانا أوحد لدى قطاعات واسعة من الناخبين العراقيين. لذلك ترى أن الناخب ينجذب حكما لمن يقدم له أمل الحصول على وظيفةٍ حكوميةٍ، توفر له ضمانا نسبيا في بلدٍ يتعثر فيه القطاع الخاص، ويفشل في توفير وظائف كافية أو بنوعية وضمانات جيدة.
تحرص أميركا على إقامة الانتخابات العراقية في موعدها، بل وتقدّم، هذه المرة، مساعدة فعلية على الجانبين، التقني واللوجستي، ولكن أميركا هي التي رعت النظام السياسي العراقي الجديد بأمراضه، فمنذ لحظة التأسيس، أشرفت على عملية تقسيم المناصب الكبرى على أساس طائفي، كما أنها دفعت باتجاه تشكيل حكوماتٍ، يشارك فيها الجميع، ويتقاسمون المغانم، من غير وجود
معارضة، بدعوى تمثيل الجميع، وعدم استبعاد أي طائفة. وعلى الرغم من النتائج التي وصل إليها العراق ونظامه السياسي، تصر أميركا على رعاية مشروعها. إيران، وهي العدو المعلن لأميركا ترعى الوضع في العراق أيضاً، وتدعمه بعلاقاتها الواسعة والتاريخية مع القوى السياسية الشيعية والكردية التي أصبحت مهيمنةً في العراق، بل يمتد نفوذها إلى أحزابٍ سنيةٍ كثيرة. تتدخل قوى خارجية أخرى في المشهد العراقي بالتأكيد، ولكن ليس بينها من يقترب من تأثير أميركا وإيران.
تأتي الانتخابات هذا العام للتذكير بالنظام السياسي العراقي، ومدى عمق أمراضه. ستشارك نسبة كافية من الناخبين العراقيين، ولن تنجح دعوى المقاطعة. لن يحصل هذا لأن المشاركة مجدية بالضرورة، وليس لأنها توفر وسيلة للتغيير الحقيقي، ولكن لأن الأمراض السياسية هي التي تمنح الوقود للعملية الانتخابية التي جرّبها العراقيون مراراً، وعرفوا أن نتائجها لن تكون سوى مقدمة لعملية اختيار للحكومة، تتم باتفاق الأطراف الداخلية المسيطرة، وبرعاية خارجية لا غنى عنها.
تعرف أميركا جيداً أن الديمقراطية في المفهوم والممارسة أكبر من مجرد عمليات الاقتراع، لكن الأغراض السياسية بالنسبة لواشنطن أهم وأكثر إلحاحاً من المبادئ. بل يمثل العراق، حتى لمن يمتلك حرصاً على القيم الديمقراطية في أميركا، حالة صعبة وورطة للسياسة الأميركية، تتعامل فيها وفق الحد الأدنى على أمل حدوث تحسن أو احتواء الضرر قدر الإمكان.
أما في العراق، فلا ينشغل الناس كثيراً بالجدل النظري، ولكن بالأسئلة العملية، مثل: هل ننتخب أم لا؟ وإذا انتخبنا فمن ولماذا؟ عملياً، أسست العملية السياسية في العراق، وفيها ثلاثة أمراض مزمنة يعيشها العراقيون يومياً، ولكن أعراضها تشتد مع كل موسم انتخابي، وتلك هي المحاصصة الطائفية والزبائنية، والنظام الاقتصادي القائم على امتلاك الأحزاب القوية الحاكمة للمزايا الاقتصادية وتوزيعها على أنصارها، والفساد المستشري في أجهزة الدولة. اشتداد تلك الأعراض لا يعني حكماً عدم الاكتراث بالعملية السياسية والانتخابات، بل العكس غالباً. فالأحزاب العراقية الكبيرة والمتنفذة تستند على سياسات الهوية، وادعاء التمثيل الطائفي. وفي موسم الانتخابات تكون الرسائل واضحة في تخويف الناخبين من احتمالات صعود الآخر الطائفي وتقويته.
لكن المحاصصة الطائفية والعقلية الطائفية، وهي المرض الأول، لم تكن لتعيش وتستمر بهذه القوة، لولا المرض الثاني، وهو النظام الاقتصادي الزبائني الذي كرّسهما، فالناخب العراقي، كبيراً كان ومؤثراً مثل شيخ العشيرة أو عادياً بسيطاً، يعرف تماماً أن مفاتيح الاقتصاد تكمن لدى مجموعة من قادة الأحزاب المتنفذين. وهنا يأتي المرض الثالث، وهو الفساد المستشري في أجهزة الدولة. وهنا لا نتحدث عن الفساد الصغير الذي يمارسه صغار الموظفين، بل الفساد الكبير الذي يتمثل بالعمولات الكبرى التي تدفع لكبار المسؤولين، وهو أمر أصبح معلناً ومعترفاً به، حتى من شخصياتٍ كبيرة، ولعل أشهر من تحدث عنه بوضوح كان نائب رئيس الوزراء العراقي السابق، حسين الشهرستاني، في مقابلةٍ تلفزيونيةٍ قال فيها إن معظم المسؤولين يهتمون بالعمولات أكثر من العمل الحقيقي المنجز في العقود والتعاملات التي تبرمها وزاراتهم. وربما لا نحتاج للتذكير بأن العراق، ومنذ سنوات، يعد من أكثر الدول فساداً في العالم، وفقاً للتقارير السنوية لمنظمة الشفافية الدولية. يوفر هذا الفساد إمكانات مادية كبيرة للأحزاب والقوى السياسية العراقية الطائفية، ويمثل مورداً أكبر مما تحصل عليه من الدعم المادي من القوى الخارجية غير العراقية، ولكن هذه الموارد جميعاً تعزّز قوتها وهيمنتها على المشهد الانتخابي، وصعوبة بل استحالة بروز قوى سياسية مختلفة، أو نجاحها انتخابياً.
تتمثل السمة الأهم والأوضح والأكثر طغياناً للنظام الزبائني في سيطرة قادة الأحزاب الطائفية أيضا على فرص العمل في القطاع الحكومي الكبير، والمتضخم، في العراق، وذلك عن طريق الوزراء وكبار المسؤولين الذين يعينونهم. ويمثل الحصول على فرصة عمل في الدولة هدفا كبيرا، وأحيانا أوحد لدى قطاعات واسعة من الناخبين العراقيين. لذلك ترى أن الناخب ينجذب حكما لمن يقدم له أمل الحصول على وظيفةٍ حكوميةٍ، توفر له ضمانا نسبيا في بلدٍ يتعثر فيه القطاع الخاص، ويفشل في توفير وظائف كافية أو بنوعية وضمانات جيدة.
تحرص أميركا على إقامة الانتخابات العراقية في موعدها، بل وتقدّم، هذه المرة، مساعدة فعلية على الجانبين، التقني واللوجستي، ولكن أميركا هي التي رعت النظام السياسي العراقي الجديد بأمراضه، فمنذ لحظة التأسيس، أشرفت على عملية تقسيم المناصب الكبرى على أساس طائفي، كما أنها دفعت باتجاه تشكيل حكوماتٍ، يشارك فيها الجميع، ويتقاسمون المغانم، من غير وجود
تأتي الانتخابات هذا العام للتذكير بالنظام السياسي العراقي، ومدى عمق أمراضه. ستشارك نسبة كافية من الناخبين العراقيين، ولن تنجح دعوى المقاطعة. لن يحصل هذا لأن المشاركة مجدية بالضرورة، وليس لأنها توفر وسيلة للتغيير الحقيقي، ولكن لأن الأمراض السياسية هي التي تمنح الوقود للعملية الانتخابية التي جرّبها العراقيون مراراً، وعرفوا أن نتائجها لن تكون سوى مقدمة لعملية اختيار للحكومة، تتم باتفاق الأطراف الداخلية المسيطرة، وبرعاية خارجية لا غنى عنها.
دلالات
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
رافد جبوري
مقالات أخرى
20 مارس 2020
12 مارس 2020
05 مارس 2020