12 نوفمبر 2024
الانتخابات الفرنسية: الخروج من الصف
وقفنا في الصف. هناك، نحن دائما نقف في الصفّ. لشراء الخبز، لدخول السينما، لمشاهدة المعارض، لشراء علبة دخان، للركوب في تاكسي، لدفع ثمن المشتريات... لفعل أي شيء دونما استثناء. في بدايات انتقالنا، ومن ثم استقرارنا، حاولنا كثيرا التملّص والتحايل واجتراح الذرائع والألاعيب، لكي نتجاوز مَن يقف أمامنا، وأمام أمامنا، وأمام أمام أمامنا، وصولا إلى المقدّمة، مختصرين بذلك دقائق أو ساعاتٍ من الوقوف انتظارا، مفاخرين ومتمتّعين حدّ الانتشاء بكسرنا القواعد، وخرقنا آداب التصرّف، وأحيانا الأصول والقوانين.
هكذا، كان الوقوف في الصفّ هو أوّل ما واجهَنا ضمن تحديات الانتماء إلى ثقافةٍ جديدة، وقد كافحناه طويلا، متذرّعين بما تحمله جيناتُنا من الفوضى المتأصّلة، وحبّ المخالفة، والميل إلى الاعتراض وعدم الانتظام وانعدام ملكة التكيّف والانضباط والنزوع الدائم إلى التمايز والفرادة، إلى أن اكتشفنا أنها كلّها لن تخدمنا، وأنها حتى تهدّد استمرارية وجودنا هناك. فما اعتبرناه، بدايةً، رضوخا وخنوعا وانعدام إرادة ومواقف سلبية، تحوّل شيئا فشيئا، عبر مراقبتنا من هم نقيضنا التام، أن الأمر على العكس مما كنّا نراه، دليل رقيّ وثقافة وحضارة انتهت معاشرتُها الطويلة إلى تدجيننا، محوّلةً بعضنا إلى صنفٍ مختلف جديد.
عند أبواب السفارة الفرنسية، نقف في الصف إذاً، لبنانيون يحملون الجنسية الفرنسية، وأمثالهم ممن يعتبرون أنفسهم "فرنسيين من أصول لبنانية"، وهناك أيضا فرنسيون مقيمون في لبنان، وسوريون- فرنسيون قدموا من سورية أو أنهم مقيمون في لبنان. إنه يوم الأحد 23 أبريل/ نيسان، موعد الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، لاختيار الرئيس الحادي عشر للجمهورية الخامسة. المرشّحون المتواجهون في هذه الدورة أحد عشر، وإنْ اشتدّت المنافسة بين أربعةٍ منهم يتصدّرون ترجيحات التصويت، وفي مقدّمتهم الوسطيّ إيمانويل ماكرون، ومرشحة اليمين المتطرّف مارين لوبان، يتبعهما بفارقٍ خفيف المحافظ فرانسوا فيّون، وزعيم اليسار الراديكالي، جان لوك ميلانشون.
أذهب واثقةً من خياري. إنه الوحيد الذي يحكي لغةً أفهمها. لستُ ساذجة. أعرف أن حظوظه بالفوز قليلة، ومع ذلك. الرجل صادقٌ ومثالي، وخاسرٌ على وجه الخصوص. خيار دونكيشوتيّ، ليكن. الباقون يمثلون، بتفاوتٍ، ما يثير فيّ النفور ويدفعني إلى الانسحاب. يقول لي بعض الأصدقاء إنهم يميلون إلى التصويت لماكرون. فطروحاته واقعية، وهو وسطي، والبلاد تحتاج حلولا عملية، وهو خارج الاستابليشمنت وحظوظه كبيرة بالفوز. أجل، ربما.
هذه انتخابات غريبة فعلا. كل المرشحين فيها فاقدو معنىً يراهنون على إعادة المعنى إلى فرنسا. أتحدّث هنا عن مرشحي اليسار طبعا. أهل اليمين، لوبان وفيّون، لا يشغلون بالهم بأسئلةٍ كهذه. أمرّ مؤسفٌ فعلاً أن تفقد فرنسا التي أحببنا معناها. فرنسا من دون ذلك المعنى، ليست فرنسا.
أقف في الصف. أمامي شلّة أصدقاء جاؤوا معا ليصوّتوا. يتمازحون ويتحادثون في ما بينهم. نحن واقفون في نهاية الصف الطويل الذي يزداد طولاً مع تقدّم الساعة الصباحية. يطلقون الرهانات. مارين في مواجهة ماكرون. لا، مارين في مواجهة ميلانشون. لا لا، مارين في مواجهة فيّون. هؤلاء إذاً هم أصحاب مارين الذين استقبلوها في لبنان. يستديرون شبه متوجّهين إليّ. أبقى صامتةً. يتابعون. يقاطعهم رجلٌّ يقف إلى جانبي: أنا سأصوّت لماكرون، إنه الخيار الأصحّ... وتعلّق سيدة: ولمَ لا يكون الأصلح هو ميلانشون؟
يا الله، ها أنا عالقةٌ بين اليمين واليسار، مطعّمين بنكهة لبنانية. "على الأقل، لوبان ستنظّف فرنسا".. "ستستثني اللبنانيين، المسيحينن منهم تحديدا".. "يستحيل أن يكون لفرنسا رئيس يميني متطرّف".. "قد تفوز في الدورة الأولى، لكنّ الفرنسيين سيصوّتون ضدّها في الدورة الثانية، كما حصل مع أبيها وشيراك".. يتدخّل آخرون. كلٌ يروّج "زعيمه"... ها نحن في لبنان مجدّدا. حسنا، عفوا يا شباب، أريد أن أرجع إلى أوّل الصف. عذرا، سيدتي. رجاء، لو تسمحون لي بالعبور... أخرج من الصف. لا بأس. قد أعود لاحقا. وقد لا أعود. الأغلب أني سأترك خياري للدورة القادمة...
الفائزان في الدورة الأولى هما ماكرون ولوبان، يعلن مذيع الأخبار الفرنسي. لا بأس. إلى اللقاء إذاً، سيدة لوبان، في 7 أيار.
هكذا، كان الوقوف في الصفّ هو أوّل ما واجهَنا ضمن تحديات الانتماء إلى ثقافةٍ جديدة، وقد كافحناه طويلا، متذرّعين بما تحمله جيناتُنا من الفوضى المتأصّلة، وحبّ المخالفة، والميل إلى الاعتراض وعدم الانتظام وانعدام ملكة التكيّف والانضباط والنزوع الدائم إلى التمايز والفرادة، إلى أن اكتشفنا أنها كلّها لن تخدمنا، وأنها حتى تهدّد استمرارية وجودنا هناك. فما اعتبرناه، بدايةً، رضوخا وخنوعا وانعدام إرادة ومواقف سلبية، تحوّل شيئا فشيئا، عبر مراقبتنا من هم نقيضنا التام، أن الأمر على العكس مما كنّا نراه، دليل رقيّ وثقافة وحضارة انتهت معاشرتُها الطويلة إلى تدجيننا، محوّلةً بعضنا إلى صنفٍ مختلف جديد.
عند أبواب السفارة الفرنسية، نقف في الصف إذاً، لبنانيون يحملون الجنسية الفرنسية، وأمثالهم ممن يعتبرون أنفسهم "فرنسيين من أصول لبنانية"، وهناك أيضا فرنسيون مقيمون في لبنان، وسوريون- فرنسيون قدموا من سورية أو أنهم مقيمون في لبنان. إنه يوم الأحد 23 أبريل/ نيسان، موعد الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، لاختيار الرئيس الحادي عشر للجمهورية الخامسة. المرشّحون المتواجهون في هذه الدورة أحد عشر، وإنْ اشتدّت المنافسة بين أربعةٍ منهم يتصدّرون ترجيحات التصويت، وفي مقدّمتهم الوسطيّ إيمانويل ماكرون، ومرشحة اليمين المتطرّف مارين لوبان، يتبعهما بفارقٍ خفيف المحافظ فرانسوا فيّون، وزعيم اليسار الراديكالي، جان لوك ميلانشون.
أذهب واثقةً من خياري. إنه الوحيد الذي يحكي لغةً أفهمها. لستُ ساذجة. أعرف أن حظوظه بالفوز قليلة، ومع ذلك. الرجل صادقٌ ومثالي، وخاسرٌ على وجه الخصوص. خيار دونكيشوتيّ، ليكن. الباقون يمثلون، بتفاوتٍ، ما يثير فيّ النفور ويدفعني إلى الانسحاب. يقول لي بعض الأصدقاء إنهم يميلون إلى التصويت لماكرون. فطروحاته واقعية، وهو وسطي، والبلاد تحتاج حلولا عملية، وهو خارج الاستابليشمنت وحظوظه كبيرة بالفوز. أجل، ربما.
هذه انتخابات غريبة فعلا. كل المرشحين فيها فاقدو معنىً يراهنون على إعادة المعنى إلى فرنسا. أتحدّث هنا عن مرشحي اليسار طبعا. أهل اليمين، لوبان وفيّون، لا يشغلون بالهم بأسئلةٍ كهذه. أمرّ مؤسفٌ فعلاً أن تفقد فرنسا التي أحببنا معناها. فرنسا من دون ذلك المعنى، ليست فرنسا.
أقف في الصف. أمامي شلّة أصدقاء جاؤوا معا ليصوّتوا. يتمازحون ويتحادثون في ما بينهم. نحن واقفون في نهاية الصف الطويل الذي يزداد طولاً مع تقدّم الساعة الصباحية. يطلقون الرهانات. مارين في مواجهة ماكرون. لا، مارين في مواجهة ميلانشون. لا لا، مارين في مواجهة فيّون. هؤلاء إذاً هم أصحاب مارين الذين استقبلوها في لبنان. يستديرون شبه متوجّهين إليّ. أبقى صامتةً. يتابعون. يقاطعهم رجلٌّ يقف إلى جانبي: أنا سأصوّت لماكرون، إنه الخيار الأصحّ... وتعلّق سيدة: ولمَ لا يكون الأصلح هو ميلانشون؟
يا الله، ها أنا عالقةٌ بين اليمين واليسار، مطعّمين بنكهة لبنانية. "على الأقل، لوبان ستنظّف فرنسا".. "ستستثني اللبنانيين، المسيحينن منهم تحديدا".. "يستحيل أن يكون لفرنسا رئيس يميني متطرّف".. "قد تفوز في الدورة الأولى، لكنّ الفرنسيين سيصوّتون ضدّها في الدورة الثانية، كما حصل مع أبيها وشيراك".. يتدخّل آخرون. كلٌ يروّج "زعيمه"... ها نحن في لبنان مجدّدا. حسنا، عفوا يا شباب، أريد أن أرجع إلى أوّل الصف. عذرا، سيدتي. رجاء، لو تسمحون لي بالعبور... أخرج من الصف. لا بأس. قد أعود لاحقا. وقد لا أعود. الأغلب أني سأترك خياري للدورة القادمة...
الفائزان في الدورة الأولى هما ماكرون ولوبان، يعلن مذيع الأخبار الفرنسي. لا بأس. إلى اللقاء إذاً، سيدة لوبان، في 7 أيار.