إن بات ارتداء قناع واقٍ من وباء فتّاك مسألة هوية سياسية في الولايات المتحدة، فما بالك إذن بالموسيقى والأغنية؟ تلك هي حال الشد والجذب الذي تعيشه الأقوى بين الأمم، إثر اشتداد تيارات مُستقطِبة ما بين يمين مُتطرّف ويسار مُغالٍ، وسط تراجع الوسطية واعتلال الاعتدال، وتعذّر الرؤية الموضوعية، واستحالة الوفاق حول أبسط مبادئ العيش المُشترك العابر للحزبية، التي من المفترض لها في زمان أكثر اتّزاناً، أن تُملي على الكل الالتزام بقواعد الصحة العامة والتضامن في مواجهة فيروس لا توفّر عدواته أحداً، محافظاً كان أم ليبرالياً، أبيض أم أسود، جمهورياً أم ديموقراطياً.
الفُرقة ليست أمراً طارئاً جديداً في المجتمعات الديموقراطية الحديثة، وإنما أصلٌ متجذّر للتعددية الليبرالية. المُستجد، هنا، هو الافتراق، وذلك في ظل العطل المُلمّ بنظام "تصنيع التوافق" Manifacturing Consent، بحسب المفكر نعوم تشومسكي، الذي ظلت تؤمّنه إلى زمن قريب المؤسسات الثقافية والصناعات الترفيهية، ووسائل الإعلام المقروءة، المسموعة والمرئية.
شهد زمن الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي أولى بوادر الانفصام الاجتماعي الأميركي، مُتمثلاً في الأغاني. ففي حين كان الاقتصاد في الحضيض والعامة يؤرقها الجوع وتُنهكها الفاقة، تولّى فرانكلين روزفلت رئاسة الولايات المُتحدة عام 1933، ليُقبل بخطاب عنوانه العريض "الأمل بغد أفضل"، والعمل على إصلاح النظام الاقتصادي والاجتماعي بغية النهوض بالبلاد واجتياز المحن.
خطابٌ مُشرق عكسته أغنية كـ "أيام السعد ها هنا من جديد" Happy Days Are Here Again التي قدمها بن سيلفن Ben Selvin 1898-1980 وفرقته. بألحانها وإيقاعاتها المرحة والبهيجة، زُوِّقت مهرجانات الرئيس روزفلت الانتخابية، لتوائم أجواء التفاؤل التي أشاعتها، والرسائل الإيجابية التي دأبت على إيصالها إلى الناس. إلى تلك الجوقة الدعائية، انضم موسيقي آخر من هوليوود سنة 1930 هو إيرفنغ برلين 1888-1989 Irving Berlin، ليُقدم أغنية "بارك الله بأميركا" God Bless America، تحض على حب الوطن، وتشحذ الهمم في وقت أخذت فيه تخور أمام وطأة الفقر واستفحال البطالة.
مقابلَ ذلك البوق الوردي المتناغم مع خطاب الإدارة السياسية حينئذٍ، علت أصوات غنائية شاذة ناقدة، آثرت وصف الحال كما هي، وإبراز المآل على ما هو عليه من بؤس ويأس. أغنية "أخي، أتستطيع ادّخار قرش" Brother Can You Spare A Dime اشتُهر بنغ كروسبي Bing Crosby 1903-1977 بغنائها سنة 1930، روت قصة الجنود الأميركيين العائدين من الحرب العالمية الأولى، كيف وبعد أن ضحّوا بالكثير في سبيل بلدهم، تراهم الآن يصطفّون على طوابير مِنح الخبز الطويلة للجوعى والعاطلين عن العمل.
أخذ الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة في التبلور إبان حرب فيتنام 1955-1975 التي تزامنت بدورها مع انطلاقة حركة الحقوق المدنية سعياً من أجل انتزاع الحق في المساواة بين السود الأميركيين ومواطنيهم من البيض. على نار الجبهتين الداخلية، في أحياء كل من واشنطن وشيكاغو، والخارجية في أدغال سايغون، نضج جيلٌ من أبناء السواحل، شرقاً في ولاية كـ نيويورك، وغرباً في أخرى كـ كاليفورنيا، عارض الحملات العسكرية، انتصر للحقوق المدنية وتبنّى القيم التقدمية.
عُرف هؤلاء بأبناء الثقافة المضادة Counterculture وكانت لهم موسيقاهم التي ميّزتها أجناس الروك آند رول Rock’n Roll العصرية والآر أند بي R&B الأفروأميركية. راجت بينهم أغانٍ كـ "حرب" War لإدوين ستار Edwin Starr و"علينا الخروج من ذلك المكان" We Gotta Get Out Of This Place لفرقة The Animals إشارة إلى ضرورة الانسحاب السريع من المستنقع الفيتنامي.
على الضفة المقابلة، كان البيض من المُحافظين، وأغلبهم في الدواخل من الولايات الوسطى الجنوبية والغربية، أهل الريف من المزارعين المُتشبّثين بالقيم الدينية الإنجيلية المسيحية والثقافية الأوروبية للمستوطنين الأوائل، مُلّاك الأرض والعبيد. مثّل هؤلاء القاعدة الصلبة والصامتة للحزب الجمهوري (بحسب تعبير الرئيس الجمهوري الراحل ريتشارد نيكسون). آزروا العسكرتاريا والتوسع الإمبريالي حول العالم تحت يافطة مواجهة التمدد الشيوعي. كما رؤوا في جيل الثقافة المضادة مظهر انحلال خُلقي، وفي حركة الحقوق المدنية خسران امتيازات عرقية.
كان لهؤلاء موسيقاهم أيضاً، وإن انحصرت بنطاق الكونتري Country الريفي ونجومه كروجر ميللر Roger Miller 1936-1992 وجوني كاش 1932 - 2003 Johnny Cash اللذين نأووا بأغانيهم عن الرسائل السياسية واكتفوا بالموضوعات العاكسة لتقاليد الحياة الريفية وبيئتها الطبيعية والزراعية من جواد وشاحنة، وحنين إلى ماضٍ جميل، حبٌ قديم وزجاجة نصف فارغة من الويسكي.
أيضاً في فيتنام، وبين صفوف الضباط الشباب والمتطوعين من الجنود الأميركيين، برزت ملامح ذلك الانقسام "السوسيو - موسيقي". ففي المهجع وعلى موائد الطعام، تجد العسكر من البيض يبثون أنغام الكونتري من مُكبرات أجهزة الراديو ترانسزتور الصغيرة، فيما رفاق السلاح من السود يسمعون الآر أند بي بأصواتٍ كالتي لـ جيمس براون James Brown 1933 - 2006 وآريتا فرانكلين Aretha Franklin.
اليوم، أخذت بذور تلك الانقسامات العرقية ما بين أبيض وملوّن، والديموغرافية ما بين سواحل ودواخل، والثقافية ما بين ريف نوستالجي ومُدن كوزموبوليتية في النمو والتصلّب حتى تشكّلت فروعاً على هيئة هوّيات سياسية مُتقابلة مُتنافرة متداخلة في كل من الحزبين المتناكفين، الجمهوري المُحافظ والديموقراطي الليبرالي، بحيث أصبحت تتهدد الهويّة الأميركية الوطنية ذاتها، التي وإن أنشئت على ماضٍ كولونيالي مظلم، استوطن الأرض وأباد سُكانها الأصليين، إلا أنها تطوّرت مروراً بحرب أهلية طاحنة ومحن اقتصادية مُتعاقبة وحِراكات اجتماعية ومطلبية متتالية، لتؤسس لها سردية تقوم على التلاقح والاندماج ضمن التعددية في الولايات المُتحدة بوصفها البوتقة، بلد الهجرة والجدارة.
لئن بقي من المحال، حتى الساعة، نجاح أي مرشح رئاسي، مهما كان حزبه وهواه السياسي، في نظام ديموقراطي انتخابي حقيقي ما لم يحصد أصوات الغالبية من الشعب أو من مندوبيه وممثليه، فإن حملة دونالد ترامب من أجل ترشحه لولاية رئاسية ثانية، مثلها كمثل حملات من سبقه ومن نافسه وينافسه، ستلجأ قدر المستطاع إلى اختيار لائحة جامعة من الموسيقى والأغاني المُصاحبة للتظاهرات الجماهيرية التي تُنظمها تمهيداً وتذييلاً لظهورات المرشح أمام جمهوره، واعتلائه ثم هبوطه منصةَ الدعاية الانتخابية أمام حشده ومُناصريه.
من هنا، شملت الباقة للمرشح والرئيس ترامب أغاني سبق لها أن حققت جماهيرية واسعة اخترقت سُوَج الانقسامات السياسية داخل المُجتمع الأميركي. مع الأخذ بالحسبان توظيف عناوينها ومضامينها في التأثير بوعي الناخب، ومن ثم قراره عبر الاستثارة الحسية والاستمالة العاطفية واستعادة الذكرى العطرة بوحي الألحان والكلمات. لذا، تطابقت لائحة الموسيقى الانتخابية مع لوائح جوائز غرامي، بوصفها مقاييس ذات مصداقية للشعبية والنجاح.
لا غرابة، إذن، أن يُسمع المغني بروس سبرنغستين Bruce Springsteen مثلاً بصوته الذي علا زمن الثمانينيّات حتى ملأ أسماع الصبايا والشباب على اختلاف ألوانهم وأهوائهم، يصدح عبر مكبرات حملة ترامب الانتخابية، يصيح: "ولدت في أميركا" Born in USA، وذلك لما يُجسّده سبرنغستين، سليل الأسرة الكادحة، من رمزية عابرة للاصطفاف الحزبي وآسرة للضمير الجمعي، بينما يُمجد عنوان أغنيته على نحو مستتر قيم "الوطنية الصافية" وطهرانية الانتماء بالولادة، لا بالهجرة، التي ترنو إليها قاعدة ترامب يمينَ قواعد الجمهوريين التقليدية.
في المقابل، تخندق بعض الفنانين وأعضاء الفرق يساراً، مؤكدين مواقفهم الرافضة لخطاب الرئيس الحالي، وزاعمين أن في متنه استثماراً للخوف وبنبرته تحريضاً على الكراهية. فترى ذوي مغني الروك توم بيتي Tom Petty 1950 -2017 يوجهون رسالة إلى إدارة الحملة يستنكرون فيها بث الأخيرة أغنية بيتي "لن أتراجع" I Won’t Back ‘Down خلال المهرجان الأخير المثير للجدل في مدينة تولسا في ولاية أوكلاهوما.
تقارير أخرى تناقلت شكاوى مماثلة تقدم بها فنانون جماهيريون كـ ريانا Rihanna وستيفن تيلور Steven Tyler. فضلاً عن تهديد فرقة الـ "رولنغ ستونز" برفع دعوى قضائية ضد فريق حملة ترامب، جرّاء بثّها أغنية "لا تستطيع الحصول دوماً على ما تريد" You Can’t Always Get What You Want، وفي العنوان بلا شك غمز وإشارة إلى مرشح القطب المقابل، الديموقراطي جو بايدن.
بحسب مركز الإحصاء السكاني الأميركي U.S. Census Bureau، فإن عدد السكان ذوي البشرة البيضاء سيهبط بمعدل 20 مليوناً. بالمقابل، فإن نسبة أولئك الملوّنين الهسبانيين Hispanic من أصول لاتينية سيتضاعف عددهم ليغدو الأغلبية بحلول سنة 2043.
حقائق جعلت من الحزب الجمهوري باتّكائه الوجودي على الناخب الأبيض الإنجيلي يستشعر في الأفق مآل التلاشي. وعليه، يُمثّل تولّي ماكينة ديماغوجية كـ دونالد ترامب زمام البيت الأبيض فرصة قد تكون الأخيرة لعكس مسار التاريخ والسيرورة الديموغرافية. وإلا، ستؤول أغاني الكونتري بالنسبة إلى الجيل القادم محض أصداء عابرة تُسمع من أزمنة غابرة.