ربما "دافع الشعب عن مصالحه ومكتسباته" هي الإجابة المتفق عليها في تركيا، لتبرير خروج الأتراك، بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو الآيديولوجي، بوجه الانقلابيين في 15 يوليو/ تموز 2016، ما يعني أن رفاهية المواطن وتحصيل حقوقه، ربما يتقدمان، حتى على خياره أو موقفه من الحزب الحاكم الذي لطالما أمّن له حياة كريمة ورفع من شأنه بين الدول وفي المحافل العالمية.
لذا، رأينا تركيز حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، قبل انتخابات المجالس المحلية التي شهدتها تركيا في 31 مارس/آذار المنصرم، على الاقتصاد وتدشين المشاريع والوعود بتحسين سعر صرف الليرة ومعيشة الأتراك، في حين كشفت الأحزاب المعارضة "الشعب الجمهوري والجيد" خاصة، كل ما تعتبره تقصيراً من "العدالة والتنمية" وركزت على تراجع سعر الليرة خلال العام الجاري والتي فقدت نحو 30% من قيمتها العام الفائت، وأثر ذلك على ارتفاع الأسعار وتراجع مستوى معيشة الأتراك.
بعدما رأى كثيرون أن انكماش الاقتصاد التركي 3% واستمرار تراجع الليرة مقابل الدولار، هما المؤشران الأخطر وينذران بركود، أعلنت مؤسسة الإحصاء التركية، الشهر الماضي عن أرقام التضخم لفبراير/ شباط، كاشفة أن معدل التضخم ارتفع 0.16% ليصبح 19.67% على المستوى السنوي.
وفقاً للمصدر نفسه، فإن أسعار المستهلك ازدادت بنسبة 17.93% خلال الأشهر الـ12 الماضية، فيما ازدادت أسعار المنتجين المحليين 27.01%، خلال الفترة نفسها.
مشكلة الديون
ويبقى الدين الخارجي من مؤرقات الاقتصاد التركي، إذ كشفت مصادر تركية لـ"العربي الجديد" أن الدين الخارجي قصير الأجل سجل 118 مليار دولار، مرتفعاً 1.5% مقارنة بنهاية عام 2018، فيما لم تزد الديون قصيرة الأجل (مستحقة السداد خلال 12 شهراً) عن 116.3 مليار دولار.
وبينت المصادر أن نصف الديون الخارجية قصيرة الأجل للبلاد بالدولار (48.9%)، ونسبة 29.6% باليورو، و16.1% بالليرة التركية، و5.4% بعملات أخرى.
وأشارت المصادر إلى ارتفاع إجمالي الدين الخارجي قصير الأجل للبنوك بنسبة 1.4% ليصل إلى 57.7 مليار دولار، وزاد حجم الدين الخارجي قصير الأجل للقطاعات الأخرى بنسبة 1.7% ليصل إلى 54.4 مليار دولار.
وفي حين يعزو اقتصاديون أتراك، سبب الانكماش بنسبة 3% الذي أعلنه معهد الإحصاء التركي أخيراً، إلى البطالة وتراجع سعر صرف الليرة والقدرة الشرائية، يؤكدون أن الديون التركية ليست سبباً لتراجع النمو وأداء الاقتصاد التركي، لأنها لا تزيد عن 480 مليار دولار ولا تشكل أكثر من 47% من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 870 مليار دولار العام الماضي.
في المقابل، سجلت احتياطات البنك المركزي ارتفاعاً خلال الأشهر الأولى من العام الجاري، وبحسب تصريح سابق لوزير الخزانة والمالية، براءت ألبيرق، تجاوز إجمالي احتياطات البنك المركزي لبلاده 100 مليار دولار.
كما سجّلت الصادرات التركية زيادة بنسبة 5.9%، فيما تراجع عجز التجارة الخارجية 72.5%، خلال يناير/ كانون الثاني الماضي، بحسب هيئة الإحصاء ووزارة التجارة، وبلغت قيمة الصادرات في يناير/ كانون الثاني الماضي 13 ملياراً و170 مليون دولار، بزيادة 5.9% مقارنة بالشهر نفسه من عام 2018.
وتراجعت الواردات خلال يناير/ كانون الثاني 27.2% مقارنة مع الشهر ذاته من العام الماضي، لتصل إلى 15 ملياراً و673 مليون دولار.
ووفقًا للمعطيات ذاتها، تراجع عجز التجارة الخارجية في فبراير/ شباط 72.5%، ليصل إلى مليارين و503 ملايين دولار.
خلال عهد "العدالة والتنمية"
وتركيا لمن يتابع تطورها منذ استلم حزب "العدالة والتنمية" السلطة عام 2002، خطت بثبات وتوازن، نحو تغيير الأرقام، سواء ما يتعلق منها بالاقتصاد الكلي، إذ تراوح متوسط الارتفاع السنوي في الاقتصاد التركي 6%، وفي عام 2017 بلغت نسبة النمو 7.4%، وفضلاً عن سداد كامل ديونها لصندوق النقد الدولي عام 2014، تحولت لدائنة له.
إلا أن الاقتصاد التركي، وكما يشير اقتصاديون، بدأ منذ العام الماضي، يعاني مما يسمونه "استهدافاً" سواء جراء العقوبات الأميركية أو تخفيض شركات خدمات مالية "وكالات التصنيف الائتماني" تصنيف الدين السيادي لتركيا، وأثر الديون الخارجية على الاقتصاد، والتي تزيد عن 480 مليار دولار منها 210 مليارات على القطاع الحكومي.
ويركز زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، خلال حملات حزبه الانتخابية، على تراجع مستوى معيشة الأتراك، بعد خسارة الليرة أكثر من 30% من قيمتها وعلى نسبة البطالة التي تزيد عن 11% مؤكداً خلال تجمع انتخابي قبل أيام، وبعد "إهانة وزير الداخلية سليمان صويلو واتهامه بن علي يلدريم بالتخلي عن رئاسة البرلمان ليترشح لبلدية إسطنبول" أن عدد العاطلين عن العمل بتركيا، بلغ 7 ملايين، محملاً وجود السوريين جزءاً من الأسباب.
كما تركز المعارضة التركية، خلال حملتها الانتخابية، على التضخم النقدي الذي بلغ نحو 20% محملة الحزب الحاكم وسياسته الخارجية السبب، وخاصة بعد أن أصدر المعهد التركي للإحصاء أن نسبة انكماش الاقتصاد 3 وللمرة الاولى منذ 10 سنوات، ما يخشى، بحسب المعارضة، من انزلاق الاقتصاد التركي إلى الركود، ويؤثر على الأسواق ويهز ثقة المستهلك والمستثمر.
في المقابل، يركز حزب العدالة والتنمية، وبحسب خطابات الرئيس التركي، على النقلة التي حدثت بالاقتصاد التركي والوعود برفع متوسط الدخل إلى 25 ألف دولار سنوياً في حين لم يكن يزيد عام 2022 عن 3.4 آلاف دولار ويزيد نهاية عام 2018 عن 9.6 آلاف دولار بحسب هيئة الإحصاء، وتحسين مستوى المعيشة والخدمات الصحية، بعد أن تلقى مليون و21 ألفًا و907 أشخاص خدمة الرعاية الصحية في منازلهم، بين عامي 2011 و2018، وارتفع الإنفاق على الصحة، من 18.7 مليار دولار إلى أكثر من 117 ملياراً العام الماضي.
ولذلك كان طبيعياً أن تتخذ الحملات الانتخابية شديدة التنافس بين 12 حزباً، من الاقتصاد إكسيراً لها.
ورقة الاقتصاد الانتخابية
يرى أستاذ الاقتصاد بأكاديمية باشاك شهير في إسطنبول، فراس شعبو، زيادة استخدام الاقتصاد كورقة ودعاية انتخابية، لأنه صراحة بات نقطة الضعف بالواقع التركي، وبات ساحة الصراع بين الأحزاب المتنافسة، خاصة بعد تقرير انكماش الاقتصاد التركي خلال الربع الرابع من عام 2018 بواقع 3% وتراجع سعر صرف الليرة التركية التي أثرت على ارتفاع الأسعار.
ويشير شعبو لـ"العربي الجديد" إلى أن خسارة الليرة أكثر من 30% من قيمتها، انعكس بشكل مباشر على قيمة أجور الأتراك ومستوى معيشتهم، بعد ارتفاع الأسعار بين 30 و100% خلال عام، وهو المجال الخصب لتلعب عليه الأحزاب وتستميل الناخبين، عبر وعود بتحسين سعر الصرف ووضعهم المعاشي.
ولا ينكر مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في إسطنبول، محمد كامل ديميريل، أن بعض مؤشرات الاقتصاد التركي، تراجعت نهاية العام الماضي والربع الأول من العام الجاري، عازياً الأسباب لعوامل سياسية، وليست بسبب ضعف الأداء التركي.
ويقول ديميريل لـ"العربي الجديد"، إن ثمة أرقاماً قياسية تحطمت مطلع العام الجاري، كقطاع العقارات وبيع الشقق، ما يزيد من العملات الأجنبية بالسوق، كما أن حجم التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي بزيادة والميزان بصالح تركيا بأكثر من 1.5 مليار دولار.
في السياق نفسه، أشار إلى زيادة تدفق الاستثمارات بعد أن تراجعت التكلفة، ليستفيد المستثمرون من فارق سعر العملة، متوقعاً أن تزيد عائدات السياحة إلى 50 مليار دولار، بارتفاع نسبته 30% عن عام 2018 بعد تشغيل مطار إسطنبول الثالث في إبريل/ نيسان الجاري.
ويعتقد مدير مركز الدراسات ديميريل، أن يبدأ الاقتصاد التركي بالتعافي، بعدما انتهت الانتخابات، وكان من الطبيعي، برأيه، أن تركز المعارضة على الاقتصاد و"تلعب" على معيشة الأتراك، لكن المواطن التركي يريد الاستقرار وهو بصورة المشاريع الكبيرة، مثل قناة إسطنبول، السيل التركي، جسر جناق قلعة، مشاريع الطاقة النووية، والتي ستنعكس على وضعه المعيشي وإتمام حلم الأتراك لتحقيق أهداف 2023.
تدشين مشاريع
جاء رد حزب "العدالة والتنمية" على حملات المعارضة بتركيا، عبر تدشين المشاريع واستمرار الوعود بتدشين المشروعات العملاقة بمواعيدها، فافتتح الرئيس رجب طيب أردوغان، في أنقرة، مستشفى "بيلكنت" الذي يُعد الأكبر في أوروبا، والثالث على مستوى العالم.
وافتتح خطا جديدا للترام في ولاية أنطاليا، جنوب غربي تركيا، وقاد بنفسه أول رحلة للخط الجديد. بل حتى خلال الاحتفال بذكرى معركة "جناق قلعة"، استثمر الرئيس التركي الحدث وافتتح رسمياً "متحف طروادة" في المدينة الأثرية التي يعود تاريخها إلى 5 آلاف عام، بولاية جناق قلعة غرب البلاد.
واستمر الرئيس التركي بتعزيز المشروعات الاقتصادية، كردٍّ على استهداف المعارضة حزبه، من بوابة الاقتصاد، معلناً عزم بلاده البدء ببناء نفق إسطنبول من 3 طوابق، وهو بحسب أردوغان، مشروع لا مثيل له بالعالم، مشيراً إلى أن المشروع سينفذ عبر التعاون مع القطاع الخاص، وفق نظام "البناء والتشغيل ونقل الملكية للدولة"، وأن أعمال الدراسة الفنية للمشروع ستنتهي خلال العام الحالي.
وخلال خطاب آخر في حي قاسم باشا في إسطنبول، أشار أردوغان إلى أن تركيا من بين البلدان الأكثر استقطاباً لتملك العقارات في العالم، موضحاً أن تركيا شهدت بيع عقارات بقيمة 35 مليار دولار للأجانب خلال فترات حكومات حزب العدالة والتنمية (منذ 2002).