الاقتصاد العراقي... والحاجة لتنمية حقيقية من أجل بناء الدولة

29 نوفمبر 2018
+ الخط -
تحدث مالك بن نبي، أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية الحديثة في كتابه "المسلم في عالم الاقتصاد"، الذي تحدث فيه عن مشكلة الاقتصاد كأحد أهم وأخطر مشكلات الحضارة، ويرجّع مشكلة المسلم عندما فتح عينيه في عالم الاقتصاد بعدما نالته الصدمة الاستعمارية، إلى أنه كان خارج المعادلة الاقتصادية ولم يكن طرفًا رئيسًا من أطرافها، ولا مكونًا أساسيًا من مكوناتها، بمعنى أنه لم يكن "المنتج" الذي يُرعى حقه ويمتلك عوامل الإنتاج ويفعلها، وكذا لم يكن "المستهلك" الذي تراعى حاجته ويكترث لرغبته.

وعليه، فلم يكن لهذا المسلم صلة موضوعية بعالم الاقتصاد، ولم يتعد كونه أداة في يد الاستعمار يسخرها في عمل ما يريد، وهو الأمر الذي ترتب عليه غياب "وعيه الاقتصادي"، هذا الوعي الذي ينشأ من خلال تجربة وخبرة حقيقية في عالم الاقتصاد الذي بدوره كان غريبًا عليه بكل مفاهيمه وجوانبه.

وتحدث بن نبي في كتابه عن مفاتيح العملية التنموية والعمرانية وبيّنها إلى الوجود الإنساني والبشري، لأن التنمية تحتاج للحضور الإنساني الفاعل في الحياة وليس مجرد الوجود فيها، فهي تتطلب أن يكون الإنسان فاعلاً ومؤثراً في الحياة وأن يضع بصمته في كافة المجالات، إضافة إلى الاهتمام بالأفكار لما لها من قدرة على تطوير حياة الإنسان وجعله في مرحلة مستمرة من التنمية والتعمير، من خلال جعل الأفكار الجديدة موضع التنفيذ.

ومما لا شك فيه أن الاقتصاد العراقي يعاني من مشاكل كثيرة للغاية، ابتداءً من تفشي البطالة وانعدام الصناعة وانهيار البنية التحتية وضعف أداء القطاع الزراعي والتجاري، وصولاً إلى استشراء الفساد الإداري والمالي وغياب القانون وفقدان النزاهة وتولية غير الأكفاء بأهم المفاصل الحيوية، فإن هذا الواقع يترافق مع وجود عملية سياسية مشبوهة تشوبها الكثير من علامات الاستفهام حول أدائها ومهامها وطريقة تشكيلها.

ولأجل الوصول إلى المأمول لبناء الدولة الرصينة والقوية والقادرة على تحقيق طموحات وتطلعات المواطنين، لا بد من بناء دولة الرفاهية والقانون التي يراد لها أن تكون نموذجاً باهراً في المنطقة، وهذا الأمر يتطلب بذل جهود كبيرة، من أجل إقامة بنية اقتصادية صلبة يمكن أن تساعد في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والأمني والسياسي، وترفد الدولة بالموارد الضرورية لتحقيق أهدافها، وشل وتعطيل قوانين حماية الفاسدين المتنفذين في جميع مفاصل الدولة، ولا بد في بداية كل مشروع من تحديد المشكلات والنظر إلى المسببات والعمل فعلياً على معالجتها.


فمنذ أن أكملت دراستي الجامعية قبل عشر سنوات تقريباً، لم أتعمق في عملي الصحافي بمجالي الأكاديمي المتخصص بعلوم الاقتصاد، والكتابة التفصيلية في هذا المجال، باستثناء بعض التقارير التلفزيونية التي عملت عليها طوال السنوات الماضية.

لكن مع تطور الأحداث الراهنة ووصول الوضع الاقتصادي العراقي الراهن إلى مستوى السخرية المؤلمة، لا بد من الوقوف وتحديد الموقف الشخصي لما يجري في السياسة التنموية الاقتصادية العراقية التي وصلت لأدنى مستوياتها منذ قيام الدولة العراقية.

ففي العراق لا يمكن أبداً تحقيق أي تقدم أمني وسياسي واجتماعي، من دون تحديد المشكلات الاقتصادية من أجل معالجتها قبل كل شيء، فالتنمية الاقتصادية في العراق معطلة ومشلولة أو متوقفة بالكامل، والسبب يعود لغياب الخطط الاستراتيجية والوعي الاقتصادي لدى العاملين في هذه المؤسسة المهمة، الذين يفتقرون للمهنية الاقتصادية في أداء العمل، ووضع الخطط اللازمة لاستئصال الفقر محلياً، واعتماد الدخل القومي للبلد على البترول في صناعة اقتصاده، المفترض أن يكون اقتصاداً متعدداً لا أحادي المصدر.

ويؤكد أكاديميون ومختصون في التنمية الاقتصادية، أن الاقتصاد العراقي يعاني من اختلالات كبيرة لأسباب متعددة، منها داخلية وأخرى خارجية، نتيجة الاعتماد على السياسة الريعية الأحادية الجانب، على الرغم من توفر الإمكانات والموارد المتعددة.

وينتقد الدكتور علي عبدالهادي، أستاذ الاقتصاد في جامعة الأنبار، في أحد بحوثه المنشورة دور الدولة، من خلال غياب الخطط التنموية وعدم معالجة الدستور للقضايا الاقتصادية، معتبراً أن تحديد النظام الاقتصادي وتوجهاته وتحديد دور الدولة في إدارة السياسات الاقتصادية أمر بغاية الأهمية، فمعالجات الدستور للقضايا الاقتصادية جاءت ناقصة ولم تستكمل بالقوانين ذات العلاقة، ولم تكن واضحة ودقيقة في الوقت نفسه، بالإضافة إلى حصول تناقضات بين آلية تبني السوق وبرامج التمويل والخصخصة، وعدم وضوح الخطط التنموية للقطاعات الاقتصادية، ما ترتب على ذلك تبديد الثروات وضياعها، وعدم تحقيق نمو وتطور ملموس طيلة السنوات الماضية.

لذا فإن اعتماد استراتيجيات ملائمة وفعّالة لحالة الاقتصاد العراقي وقطاعاته الأساسية، مع توفير البيئة المناسبة لذلك، يتطلب اعتماد مهام وأهداف للسياسة الاقتصادية في العراق، وفي مقدمتها وضع أولويات استثمارية وبنى تحتية لازمة، إضافة إلى تحديد موقف آلية السوق وعملية التمويل والنظرة بواقعية نجو دور ومهام القطاعات الخاصة، بالإضافة إلى تنويع الاقتصاد العراقي من أجل تخفيف أحادية القطاع النفطي، وزيادة مساهمة قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة واستراتيجية القناة الجافة لتنشيط التجارة والترانزيت عبر الأراضي العراقية، بالإضافة إلى استثمار الموارد البشرية بالشكل الصحيح، من خلال وضع الخطط ورسم السياسة الاقتصادية الرصينة، والتنمية البشرية المستدامة.. كل ذلك من شأنه أن يؤدي إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وصولاً إلى التنمية الوطنية المستدامة في العراق.

فلا يخفى على الجميع أن المشاكل السياسية هي التي تقف وراء فقدان الأمن، الذي عزز انعدام التنمية الاقتصادية نتيجةً لأسباب كثيرة، أهمها تعدد الكتل والأحزاب السياسية وعدم اتفاقها على برنامج موحد وبالتالي إلى التقاطع والتضاد، ما عطل برامج التنمية في جميع المجالات، فالصراعات السياسية وعملية المحاصصة وبيع واستغلال الحقائب الوزارية ووضع غير المؤهلين في إدارتها، جعلتها تعمل بحسب الانتماء والولاء السياسي والحزبي، الذي نتج عنه عدم وجود تنمية اقتصادية حقيقية إنما تنمية لخطط استهلاكية جعلت المجتمع استهلاكياً وغير منتج، وهذا ما أسميه تنويماً مغناطيسياً للمجتمع لإبقائه أداة ضعيفة يمكن السيطرة عليها كلياً، كما أن المشكلات السياسية والصراعات الحزبية والمحاصصة الطائفية تسببت بانعدام وغياب الرؤى الاقتصادية، والخطط التنموية والاستراتيجية القادرة على حل المشاكل كافة التي يعانيها الاقتصاد العراقي.

وعدم وجود جهاز مهني وإداري يستطيع إدارة الاقتصاد ومؤسساته بكفاءة ومهنية، في ظل تفشي حالة الفساد المالي والإداري، واللجوء إلى الحلول الارتجالية أدى إلى حدوث نتائج سلبية تسببت بهدم الاقتصاد العراقي في جميع قطاعاته.

وهذا ما انعكس سلباً على الحياة الاجتماعية في البلد، التي نتج عنها الكثير من المشاكل أهمها: تفشي البطالة والدخل الفردي المتدني والطبقية المجتمعية، وتدني مستويات القطاعات الصحية والتعليمية والخدمية، وغياب مستوى الوعي الاجتماعي.. إلخ، نتيجةً لعوامل متعددة أبرزها: افتقار إدارات الصناعات إلى التدريب المهني والفني والإداري، وتشتت مواقع الصناعات وافتقارها للحماية الأمنية وهجرة الخبرات والكوادر الفنية والإدارية المتقدمة إلى خارج العراق أو دمجها بمواقع لا صلة لها بها، وضعف تمويل القطاعات الحيوية وتفشي الفساد المالي والإداري، بالإضافة إلى غياب المناخ الاستثماري الملائم، وعدم الاستقرار الأمني والسياسي.

ولمعالجة جميع هذه المشكلات، لا بد من وجود سياسة نقدية متكاملة ووضع ترتيب للأولويات الاستثمارية اللازمة، ووضع استراتيجية زراعية تلائم الوضع الاقتصادي العراقي، والعمل على استراتيجية صناعية حقيقية وتفعيل دور السياحة بجميع أشكالها، وجدولة القطاع الصناعي ووضع سياسة مناسبة له، بالإضافة إلى تطوير مهارات وخبرات وإمكانات الموارد البشرية واستثمارها بالشكل الصحيح وفق خطط التنمية البشرية الحديثة، لغرض تفعيل الدخول والثروات وإيجاد فرص سريعة وكافية للعمل والإنتاج وتحقيق تنمية اجتماعية رصينة، وهذا بدوره يعزز القوة الاقتصادية للبلد من أجل حل جميع المشاكل الموجودة، وبناء دولة قوية قادرة على أن يكون لها شأن ودور فاعل في المنطقة والمحيط الإقليمي والدولي.