الأيس كريم والمرطبات... مشكلة العراق الأساسية!

25 ابريل 2019
+ الخط -
أشار الدبلوماسي الفرنسي المثير للجدل "ميشيل بارنييه" في كتابه "من سيطعم العالم؟"، إلى إمكانية حدوث مواجهة كبيرة بين النظم العالمية، ففي عام 1994 حذر التقرير العالمي للتنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة، من أن غياب السلام يمكن أن يحول بالتأكيد دون وجود التنمية، ولكن عدم وجود التنمية يشكل تهديداً للسلام. وأكد الإعلام حينها الخبر سريعاً، فعدد 75 نزاعاً من مجموع 79 نزاعاً حدثت في عقد التسعينيات وقعت في البلدان المتأخرة، وأن نصف الدول بمؤشر ضعيف للتنمية البشرية والاقتصادية كانت في حروب ما بين عامي 1992 و2001، وهي البلدان الضعيفة اقتصادياً ودخل الفرد فيها ضعيف للغاية، فنتج عنه حدوث أخطر النزاعات.

وترابط كل شيء للوصول إلى أعمال العنف وتعرّض الموارد المتاحة للاستغلال المفرط، ما أدى إلى توترات سياسية واجتماعية حادّة، في حين أن المستويات العالية من الهجرة كثيراً ما أدّت إلى نزاعات بين الدول المتجاورة، ما جعل المجاعة تصبح سلاحاً حقيقياً في الحرب لصالح أنظمة حاكمة استخدمتها وتستخدمها ضد شعوبها.

ومنذ ذلك الحين، تردد ذكر الجوع والغضب في العناوين الرئيسية في الصحف الدولية والعالمية، ففي عام 2007 وعندما لم يعد هنالك موضع شك لدى منظمة الزراعة في أن ارتفاع أسعار الموادّ الزراعية من شأنه أن يكون مصدراً لتزايد النزاعات، جاء عام 2008 لإثبات ذلك بطريقة مأسوية، وازداد انعدام الأمن الغذائي في كل مكان، وتعزز ارتفاع أسعار السلع الزراعية، فبات الأمر حرجاً للغاية بسبب صعوبة الحصول على الطعام، الذي نتج عنه تهديدات خطيرة على التوازن الاجتماعي والسياسي في أكثر من أربعين بلداً.

في العراق ليس الموضوع ببعيد عن الأزمات المتوالية، التي حدثت نتيجة لتدهور الواقع الاقتصادي بمختلف البلدان في تلك الفترة، إذ ليس لدينا أمن غذائي فعّال ولا سياسة اقتصادية ناجحة وفاعلة، ولا حتى رقابة اقتصادية رصينة، تتبع السوق وتراقب عمل الموادّ الاستهلاكية والكمالية المستوردة.


من الطبيعي ألا يستطيع أكثرنا الإحاطة بما يجري، وعند محاولة تتبع الأخبار الاقتصادية والمالية، يجد الكثير نفسه أمام سيل من المصطلحات والتركيبات المعقدة، التي ما إن يحاول أن يفهم أحدها حتى يفاجأ بسيل آخر من الاختصارات والمصطلحات، التي يشبّهها عزمي بشارة "بلغة ناد مغلق أو لغة كهنة في معبد الاقتصاد"، في أزمة الاقتصاد وتراكمات مشاكل الأسواق التي يوجد فيها من ينتحر نتيجة خسارة مفاجئة، أو أن يربح أكثر من بليون دولار في يوم واحد.

بالعودة إلى القضية العراقية، فقد كان العراق قبل غزوه واحتلال أراضيه دولة كسائر دول المنطقة، رغم الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها للفترة ما بين عامي 1991 - 2003، وكان النظام الاقتصادي آنذاك يمتاز بنوع من الاكتفاء الذاتي من خلال توفر وسائل الزراعة ودعمها، بالإضافة إلى وجود صناعة وإنتاج محلي لعدد من السلع الغذائية، وكانت البنى التحتية أفضل بكثير مما هي عليه اليوم، رغم جميع الظروف التي رافقت ذلك الحصار.

ولو تطرقنا إلى القطاعات الاقتصادية فالأوضاع أسوأ بكثير مما كانت عليه، فقد أفرزت الأزمة المالية في العراق، التي تعتبر حصيلة لتراكمات الفساد المستشري منذ سنوات تتجاوز العقد من الزمان، الكثير من المشاكل الاقتصادية، وأنتجت شعباً يعاني الفقر بنسبة كبيرة، وانتشار البطالة بين صفوف الشباب بنسب تجاوزت الـ 34%، وترهلاً إدارياً في دوائر الدولة ومؤسساتها، وتهريب الأموال إلى خارج العراق، أي بلداً مدمراً بفعل السياسة والمحاصصة الطائفية.

وعلى الرغم من غنى الاقتصاد العراقي، وما يمتلكه من ثروات نفطية وأموال هائلة، إلا أنه دخل في مرحلة الانحدار طوال سنوات ماضية، وهذا يعني أنه يعاني من مشاكل كبيرة وخطيرة تضعه في وضع لا يحسد عليه، لأسباب متعددة أهمّها تذبذب أسعار النفط العالمية، والفساد المالي والإداري الكبير الذي يستنزف موارده الاقتصادية والمالية، بالإضافة إلى غياب صنّاع القرار المتخصصين في الجانب الاقتصادي والمالي.

كما أن نسبة معدلات التدهور الاقتصادي العراقي، من المتوقع أن تصل إلى ما دون معدل النموّ الاقتصادي، وربما ترتفع نسبياً مع تزايد معدلات إنتاج النفط وانخفاض معدلات الأسعار في السوق العالمية، أما إذا استمر انخفاض الأسعار فإن التدهور سيتزايد خلال الفترات القادمة، وهذا ما اتضح مؤخراً من خلال السياسة المالية الهشّة، وما تضمنته فقرات وبنود قانون الموازنة الاتحادية للعام الحالي، من حيث إدراج أسعار النفط في بنودها دون التوقعات الواقعية لتذبذب أسعار النفط في السوق.

ورجّح صندوق النقد الدولي في وقت سابق، أن يواصل النموّ في القطاع غير النفطي بالعراق تدهوره أيضاً، بسبب تدمير البنية التحتية للمعامل والمنشآت الصناعية، وتعطل أعمال التجارة بسبب المحيط السياسي الإقليمي، وتكبد العراق خسائر كبيرة في الفترات السابقة، بسبب التشوّه الهيكلي والحروب والصراعات الداخلية الأمنية منها والسياسية، لكونه اقتصاداً ريعياً يعتمد على النفط، فإنه بات يضحّي بالكثير في سبيل إبرام عدد من الاتفاقيات غير المدروسة من جوانب متعددة، دون أن يلاحظ أهمية هذه الجوانب، إذ كان من الممكن للعراق أن يساعد مختلف البلدان وشركاتها ومؤسساتها الاستثمارية. وذلك بنقل مصانعها إلى داخل العراق واستثمارها وفق قوانين تضمن الاستفادة الكاملة للاقتصاد الوطني، وبالتالي يتحقق إنتاج محلي عراقي وبأيد عاملة عراقية لصالح تلك البلدان وتشغيل جزء كبير من العمالة العراقية، بالإضافة إلى إغراق السوق العراقية بالمنتجات المحلية أيضاً. لكن للأسف، الاتفاقيات لم تكن بعقلية اقتصادية وإنما بعقلية سياسية، وهذا الأمر أثّر ويؤثر على الاقتصاد العراقي بشكل كبير، كما أن ريعية الاقتصاد العراقي ستزداد وبذلك عجز الموازين الاقتصادية، ولا سيما الميزان التجاري العراقي لأنه سيخلّ بالتبادلات بسبب زياده الاستيراد، لأن هنالك سوقاً عراقية استهلاكية وطلباً شديداً على المنتجات، وبالتالي يمثل العراق سوقاً واعدة للمحيط الإقليمي، لكن غياب العقلية الاقتصادية في أماكن اتخاذ القرار كلّف وسيكلّف العراق الكثير.

ومؤخراً، بعدما عجزت السلطات العراقية عن معالجة المشكلات الحقيقية للاقتصاد العراقي، راحت تعمل على إيهام الرأي العام بإمكانياتها الاقتصادية، وبدلاً من أن تستحدث القوانين الاقتصادية الاستراتيجية القريبة والبعيدة المدى، أو إعادة تأهيل وبناء المشاريع الاقتصادية والصناعية ومصانع النسيج والألبان والحديد والصلب، وحقول الغاز والعمران والمشاريع العلمية، وقفت أمام مشكلة (الأيس كريم والعصير المستورد)، الذي اعتبرته الحكومة ووزارتا التجارة والصناعة من أكبر وأخطر المشاكل الراهنة، معتقدة أن المشاكل الأمنية والسياسية الاقتصادية ستتم معالجتها بإيقاف استيراد المرطبات!

وعلى ضوء ذلك نحن أمام شيئين، يمكن أن نفسرهما من قرار الحكومة حظر استيراد المرطبات والعصائر.. أولهما: أن معامل ومكائن إنتاج المرطبات تعود لأحزاب ومتنفذين في الحكومة. وثانيهما: محاولة تخدير عقول الجماهير المطالبة بإصلاح الوضع الاقتصادي والمطالبة بتحسين الدخل وفرص العمل.

في الحالتين سوف تفتح الحكومة على نفسها أبواباً متعددة، منها أن تكون هنالك رقابة حقيقة لغرض جودة المنتج، وهذا يقع على عاتق وزارة الصحّة التي تفتقر لإمكانيات الفحص تقنياً، وهل ستتمكن فعلياً كوادر وزارة الصحّة من الرقابة دون أن يكون هنالك تأثير من أصحاب المعامل المنتجين، على اعتبار أن غالبيتهم يمتلكون نفوذاً أو علاقات مع مليشيات متنفذة يمكن أن تسيطر بالقوة على نتائج الفحص الصحّي؟

لكن ومن وجهة نظر دقيقة، يمكن أن نفسر ذلك تفسيرات أكثر عمقاً، هي أن دعم إيران للمليشيات في العراق بدأ ينحسر ويتقلص نسبياً، وهذا ما دعا إلى سرعة إيجاد البدائل في حال توقف الدعم بشكل تام، ما دعا المكاتب الاقتصادية لهذه المليشيات إلى العمل على فتح منافذ اقتصادية جديدة، مع العمل على إيقاف استيراد المرطبات وتحديداً من تركيا، التي تعتبر المصدر الأكبر للسوق العراقية، فأسست هذه المليشيات مكاتبها من أجل زيادة تمويل فصائلها وعملياتها في مختلف المحافظات، وخاصة بعدما أعلن مسؤولون محليون أنّ المليشيات المسلحة باتت تمول نفسها عن طريق هذه المكاتب.