27 أكتوبر 2024
الاستغراب في زمن الاستعراب
يُفاجأ الانسان، شخصاً وشعوراً، كل صباح، بأخبار السياسة، ويخالها بعيدةً عن المنطق أو عن التوقع أو عن الإنسانية، أو عن الشرف، أو عن الأخلاق، أو عن المبادئ، فيصير في حالةٍ من الـ "حيص بيص" الوجودي، حيث لا يتوقف خلاله عن طرح الأسئلة العبثية. وتحمل أخبار العرب، ومن في حكمهم يومياً، وبشكل مكثّف، مزيجاً متفجّراً من العوامل المؤسّسة لحالة إحباط مزمن، يُصيب العقل والجسد مع كل وظائفهما الحيوية أو سواها.
فذاك الحاكم ينشر معارضا في قنصلية بلاده في دولة أجنبية، وآخر ينتصر بقتله نصف مليون مدني، وتهجير نصف شعبه، وثالث يتقمّص شخص رسول الإسلام (ص) في حديثه مع شعبه المنتفض لكرامته، ورابع يبكي أمام عدسات التلفزة لحال ذوي الاحتياجات الخاصة، في مشهد عبثي، في حين يكاد، بقمعه وطغيانه وفساده، يُحيل مجمل شعبه إلى أصحاب احتياجات دائمة. كما لدينا، ولله الحمد، حاكم يتشبث ـ أو يُشبّث ـ بكرسي السلطة، وهو في غيبوبةٍ سريرية، ويستخدمه زبانيته، كما عائلته، في الحفاظ على مصالحهم الشخصية، مقابل إفقار شعبٍ، كان من المفترض، بعد تحرّره من الاستعمار، أن يصبح من أغنى شعوب المنطقة وأكثرها ازدهاراً. وهناك حاكم يتراجع عن إصلاحاتٍ خجولة، انتهجها مع بداية الربيع العربي، لتجنيب نفسه احتجاجات شعبه، ويعود عنها بتعزيز القبضة الأمنية الشرسة. وهناك حاكم بلغ من السن عتيّه، وهو على رأس دولةٍ ظنّ الطيبون أنها تخلّصت من الاستبداد، ويصرف جُلّ وقته وعظيم
جهده لتوريث ولده، أو لتطبيق قاعدة "عليَّ وعلى أعدائي يا رب" إن لم يُتح له ذلك، في حين "تنعم" بلاده بالفقر والتسيّب والفساد. كما حاكم بأمر الواقع على بلد محتلٍّ لا سلطة له على متر مربع منه، ولكن لديه إمكانية ممارسة الفساد والإفساد، وقمع شعبه بما يضاهي قوى الاحتلال ويبزّها، وهو يبحث عن عدو داخلي، ليحمي العدو الخارجي، فيصرف طاقته على حبك مؤامراتٍ بحق الشريك الوطني، الذي بدوره لا يتمنّع عن المماحكة باسم الدين، وممارسة فسادٍ موازٍ لا عيب فيه. ويُضاف إلى هذا الخليط العجيب، ولكن المتجانس قرفاً، باقة نتنة من حكّامٍ ينتمون إلى صنف أمراء الحرب في بلد مجاور، يستمرّون في القتال إلى آخر قطرة من دماء شعبهم من أجل آخر قطرة من نفطهم المسلوب.
من جانب آخر، هناك في المشهد العربي، ومن في حكمه، معارضون ليسوا كالمعارضين، وليس المعني بهذا التوصيف من ضاقت بهم السجون، أو غابوا تحت تراب الأوطان، أو تشرّدوا في الأرض، بل من تنطّح مدفوعاً بسذاجةٍ سياسيةٍ عالية المستوى، حتى يكون حسن الظن هو المُرشد، ليُلقي بكل بطاقاته على طاولة من قامر بها وبه وبقضيته، وأعاده إلى قواعده سالماً، ولكن عاريا من كل ما يستر الجسد والضمير. كما هناك من ظن الكُثر بدايةً أنهم معارضون، ولكنهم كانوا يتصيّدون الفرصة، ظنّاً بتغييرٍ مُرتقب، يكون لهم فيه بعض العظام أو المرق. أو معارضين ينفقون المال والجهد بالحفر من أمام، أو الطعن من وراء من يعتقدون أنهم منافسون لهم في الغنائم السياسية، حتى يستمر حسن الظن مسيطراً على الخطاب.
يُضاف إلى اللوحة "الغارنيكية" مسبقة التوصيف مدافعون عن حريات من يمثلون، أو يدّعون التمثيل، في مسعىً نبيل الهدف، ومشوّه التطبيق، فتراهم تارة بين أيدي ذاك المُسيطر، وتارة أخرى ينتقلون إلى أحضان مُسيطرٍ آخر، وعدهم بحُسن الوفادة. أو أنهم، وعندما يُلقي بهم المُسيطران، يلقون بأنفسهم في أحضان من كان سبباً لبؤسهم وشقائهم وتشتتهم ومآسيهم، منذ ستينيات القرن الماضي، فيمحون، بحركةٍ بهلوانيةٍ واحدة، كل ما قالوه، أو قيل عنهم، وعن قضيتهم المُحقّة.
وحتى يستكمل الإنسان/ الموطن الصباح المُبشّر بالجنة، فلديه من أصحاب العمائم ومطيلي اللحى النذر الوفير للحديث يومياً بكل ما هبّ ودبّ، بعيداً عن أي سندٍ أو إسناد. وهؤلاء يُغرقون مجاله العام تلفزياً ومنبرياً وورقياً، وأضيفت إلى ذلك كله وسائل التواصل التي توصل ما يهرفون به إلى كل أذنٍ وعينٍ وعقلٍ لمن لا يبحث عن المعرفة.
ولمساعدة كل من تقدّم، فلدى الإنسان/ المواطن، الفرصة الذهبية، ليشعر بأنه "قوي" الحضور في المشهد الإعلامي والسياسي العالمي، فإرهابيو المصادفة، أو التناسل المدروس أمنياً واقتصادياً، يتكاثرون كالعلق في محيطٍ يسودُه البؤس فقراً وقهراً وقمعاً. كما ينشطون في بلاد الله الواسعة قتلاً وتدميراً واغتيالاً وتكفيراً، فيُضفون على دينٍ أنزله الله أبعاداً تشوّهه، وتعطي لكل من عاداه الحجة تلو الحجة، للنّيْل منه.
لم تُترك أية ثغرة، ليتسلل منها "أعداء الأمة"، ويعبثوا بمصيرها وبمستقبلها "الواعد"، فقد تولّى المهمة أصحاب الأرض بكل صفاقةٍ، ومن دون أي توجّس. ولسان حالهم يقول لمثيري الشك في تمكّنهم من قيادتها نحو أعماقٍ سحيقةٍ أكثر فأكثر من التخلف والدمار، بأن خسئتم، يا أعداء الأمة، فنحن قومٌ قادرون على اجتراح المستحيل، فنُحيلُ نفطنا ماءً، وعقولنا إسفنجاً، ومراعينا صحاري، وغاباتنا أعواد كبريت، فموتوا بغيظكم، فلن تنالوا منا.
وكل عام وأنتم بخير.
من جانب آخر، هناك في المشهد العربي، ومن في حكمه، معارضون ليسوا كالمعارضين، وليس المعني بهذا التوصيف من ضاقت بهم السجون، أو غابوا تحت تراب الأوطان، أو تشرّدوا في الأرض، بل من تنطّح مدفوعاً بسذاجةٍ سياسيةٍ عالية المستوى، حتى يكون حسن الظن هو المُرشد، ليُلقي بكل بطاقاته على طاولة من قامر بها وبه وبقضيته، وأعاده إلى قواعده سالماً، ولكن عاريا من كل ما يستر الجسد والضمير. كما هناك من ظن الكُثر بدايةً أنهم معارضون، ولكنهم كانوا يتصيّدون الفرصة، ظنّاً بتغييرٍ مُرتقب، يكون لهم فيه بعض العظام أو المرق. أو معارضين ينفقون المال والجهد بالحفر من أمام، أو الطعن من وراء من يعتقدون أنهم منافسون لهم في الغنائم السياسية، حتى يستمر حسن الظن مسيطراً على الخطاب.
يُضاف إلى اللوحة "الغارنيكية" مسبقة التوصيف مدافعون عن حريات من يمثلون، أو يدّعون التمثيل، في مسعىً نبيل الهدف، ومشوّه التطبيق، فتراهم تارة بين أيدي ذاك المُسيطر، وتارة أخرى ينتقلون إلى أحضان مُسيطرٍ آخر، وعدهم بحُسن الوفادة. أو أنهم، وعندما يُلقي بهم المُسيطران، يلقون بأنفسهم في أحضان من كان سبباً لبؤسهم وشقائهم وتشتتهم ومآسيهم، منذ ستينيات القرن الماضي، فيمحون، بحركةٍ بهلوانيةٍ واحدة، كل ما قالوه، أو قيل عنهم، وعن قضيتهم المُحقّة.
وحتى يستكمل الإنسان/ الموطن الصباح المُبشّر بالجنة، فلديه من أصحاب العمائم ومطيلي اللحى النذر الوفير للحديث يومياً بكل ما هبّ ودبّ، بعيداً عن أي سندٍ أو إسناد. وهؤلاء يُغرقون مجاله العام تلفزياً ومنبرياً وورقياً، وأضيفت إلى ذلك كله وسائل التواصل التي توصل ما يهرفون به إلى كل أذنٍ وعينٍ وعقلٍ لمن لا يبحث عن المعرفة.
ولمساعدة كل من تقدّم، فلدى الإنسان/ المواطن، الفرصة الذهبية، ليشعر بأنه "قوي" الحضور في المشهد الإعلامي والسياسي العالمي، فإرهابيو المصادفة، أو التناسل المدروس أمنياً واقتصادياً، يتكاثرون كالعلق في محيطٍ يسودُه البؤس فقراً وقهراً وقمعاً. كما ينشطون في بلاد الله الواسعة قتلاً وتدميراً واغتيالاً وتكفيراً، فيُضفون على دينٍ أنزله الله أبعاداً تشوّهه، وتعطي لكل من عاداه الحجة تلو الحجة، للنّيْل منه.
لم تُترك أية ثغرة، ليتسلل منها "أعداء الأمة"، ويعبثوا بمصيرها وبمستقبلها "الواعد"، فقد تولّى المهمة أصحاب الأرض بكل صفاقةٍ، ومن دون أي توجّس. ولسان حالهم يقول لمثيري الشك في تمكّنهم من قيادتها نحو أعماقٍ سحيقةٍ أكثر فأكثر من التخلف والدمار، بأن خسئتم، يا أعداء الأمة، فنحن قومٌ قادرون على اجتراح المستحيل، فنُحيلُ نفطنا ماءً، وعقولنا إسفنجاً، ومراعينا صحاري، وغاباتنا أعواد كبريت، فموتوا بغيظكم، فلن تنالوا منا.
وكل عام وأنتم بخير.