-1-
لن يعودوا إلى بيوتهم، أولئك الذين غادروها في الصباح إلى أعمالهم، أو مدارسهم، معاهدهم، جامعاتهم، إلى التسوّق أو الحدائق المتاحة، أو لدفع فواتير المياه والكهرباء. كلّ الذين لم تبتر سيقانهم بعد، لتقعدهم الكراسي ذات العجلتين، ليدوّروا دواليبها بأصابعهم المشدودة. الخجولون من طلبات، يهمسون بها لذويهم بلعثمة طفولية، ليساعدوهم على قضاء حوائجهم الحميمة.
خرجوا مسرعين قبل أن يتداركهم الوقت، لا أحد يودع أحدًا. كلّ يمضي إلى هذه الأقدار والمصادفات اليومية، قد يلتقون بالموت وقد لا يلتقونه. لكنهم يلتقون بالموتى المضرجين بدمائهم، المتناثرة أطرافهم على الأرصفة، وعلى صدور الشوارع. يتعثّرون بكسور الزجاج وبالأحجار المتساقطة من العمارات التي أصابتها القذائف، وفي غمرة ارتباكهم يعبرون فوق رامات الدم والأكياس التي سقطت من أيدي القتلى. ليلطموا بعد ذلك وجوههم بأكفّ مفتوحة على فعلة إهانة الموتى، التي وقعوا بها.
يهرع أهلهم، كناية عمّن تبقى في المدينة، من أولادهم وزوجاتهم وإخوتهم للبحث عنهم، في أروقة المشافي وبرّادات الموتى.
ليروا في تلك الأماكن قتلى آخرين، ممددين داخل أكياس سوداء، يقفون أمامها منتظرين الممرض المرتبك من هذه المهمة. ما إن يصل وينحني ليفتح السحاب الطويل، حتى تظهر آثار الجروح والحروق والخسارات التي لم تعوّض، وحين يرتبكون مظهرين عجزهن في التعرّف إليهم، يستعينون بالتذكّر والبحث عن أثرِ باق من الولادة، أو إصابة مبكّرة في طفولتهم أو شبابهم، من الإصابات التي تترك أثراً، كوشم لا يزول. لكن كل ذلك لا يصل إلى يقين المعرفة. عمل الكثير من الشبان في الأعوام الأخيرة، على وشم أسمائهم على أذرعتهم وبعضهم وشم رقم هاتف بيته، كي لا يتيه أهلهم من بعدهم في المشافي وليحظوا بدفن يليق بشباب مضوا في الطرقات وهم يسعون لجلب الخبز والمياه إلى إخوتهم الأقلّ عمراً.
- متى سيعود شقيقك يا مريم، الذي غادر البيت منذ شهر لدفع فواتير الكهرباء؟
- حين يعود شقيقي الآخر، الذي مضى ليحرّر فلسطين.
من غير الواجب الغرق في مياه الأقوال الآسنة: أنه بات اصطياد الناس، أسهل من اصطياد العصافير. بعدما تجاوزت شهوة القتل تلك الطلقة النارية المفردة، التي لا تخطئ هدفها من الكائنات الآدمية الهشة. ما يحصل ليس سوى استرداد أكثر وحشية للهجمات الجنونية بأصابع الديناميت على أسراب الأسماك، وتلك الإغارات الجنونية على قطعان الغزلان في البوادي.
اقرأ أيضاً: بذور في وحل المخيم
-2-
وفي مراسم الحداد، يُذكر الموتى بعبورهم السريع على الأمكنة، بوميض أحاديثهم، وتوالي إخفاقاتهم، وهم يعبرون الحياة، لا بالتمهّل والأمان الذي يجتاز الناس الشوارع، عند الشارات الضوئية، بل كما يجتاز المحاربون الخنادق في جبهات القتال.
لكن ينبغي إقفال الفم، بضمّ حازم للشفتين، والتصبّر بألا تظهر أي إلماعة للأسنان. كمظهر تقليدي دال على الابتسام. الذي لا تنفك الأحاديث، التي تدور في الصالة الواسعة، عن التحريض عليه، كالأقوال التي يسردها الرجال المصطفون قرب بعضهم كأكياس البطاطا، عن عزم شركة ألمانية حلّ مشكلة الكهرباء. وأنه بعد أيام سيفتح الطريق الدولي الواصل بين حلب ودمشق. وعن شركات إنشاء صينية، قدّمت مخططاتها الهندسية وبرامجها التطبيقية، لإعادة، ببضعة شهور، تشييد كلّ المساكن المهدّمة. وأن هناك من سيعيد المدينة القديمة بأجمل مما كانت. لكن ما من دولة أو شركة تعهدت إعادة القتلى إلى أهلهم، ولا مؤاساة الجرحى بحمل غابات من الزهور إلى أمام أسرّتهم. وما من أحد رسا عليه مشروع إطلاق الحريات العامة، وفق مناقصة أو مزايدة، ولو من باب رفع العتب.
-3-
سيعود كلّ شيء أفضل مما كان. أي كان هناك إمكانية لتحقيق شيء أفضل مما كان. كيف اقتنع الناس لعقود، أن ما كان هو ذروة الكون والكينونة، ترى ما هي الوسائل الأكاديمية التي استخدمت لإقناعهم؟
يفقد الكلام الثقيل معناه، كأن يردد المؤبنون، وهم يرفعون كراريس صلواتهم إلى مستوى نظهرهم المستقيم. ليكن ذكره مؤبداً. متجاهلين أن من سيؤبدوا ذكره، وهم ليسوا سوى أولاده وأهله، سبقوه إلى القبور الموزّعة في أطراف المدينة.
يفقد البخور المتصاعد وظيفته، في شقّ طرقات عبر التضاريس الملتوية، المتجهة نحو السماء، فيتثبت كغيمة ثقيلة على صدور المؤبنين، الذين يركنون أكفهم المضمومة على بطونهم مطأطئي الرؤوس، كأنهم يحصون شظايا زجاج متناثر على الأرض.
ويستعينون بالزهور، لأن الزهور رسالة تتأوّل ذاتها، حين يفقد الكلام ضرورته ويراوغ في معناه. يتقدّم حاملوها بصمت نحو الضريح أو نحو القتيل المسجّى، أو إلى قوّة تقدّم له الشفاعة عن أخطائه المتخيلة. يضعونها برفق ويتمتمون بكلمات تطلب السكينة لروحه. "لكنها ذابلة"، تقول المرأة الملتحفة بثياب الحداد، في إشارة إلى باقات الزهور المركونة فوق الجسد المهيّأ للدفن. "من غير اللائق وداع الموتى بزهور ذابلة"، تنحني عليها تلمس أوراقها المجعدة، كأنما تريد استرجاع عطرها الذي تبدّد. يرد الحانوتي بكلام طالما كرره: "من أين نأتي بزهور يانعة في هذه الأيام؟ الطرقات طويلة، والكهرباء الغائبة عن البرادات التي تحفظها". ويضيف وهو ينظر في غير اتجاه القتيل المسجّى ووجه المرأة: "لا يزال في البلد من يزرع الزهور".
يقترب المحارب موشوم الذراعين، من باقات الزهور الذابلة، المرمية فوق قتلى أشدّ ذبولاً. يمسح بأصابعه قطرات الماء عن أوراقها. يجفّفهم بعد ذلك بطرف بنطاله، يلتف نحو صف الرجال الواقفين.
- ترى لماذا لا يتساقط الندى عليّ كذلك؟
- لأنك، لست وردة!!
لن يعودوا إلى بيوتهم، أولئك الذين غادروها في الصباح إلى أعمالهم، أو مدارسهم، معاهدهم، جامعاتهم، إلى التسوّق أو الحدائق المتاحة، أو لدفع فواتير المياه والكهرباء. كلّ الذين لم تبتر سيقانهم بعد، لتقعدهم الكراسي ذات العجلتين، ليدوّروا دواليبها بأصابعهم المشدودة. الخجولون من طلبات، يهمسون بها لذويهم بلعثمة طفولية، ليساعدوهم على قضاء حوائجهم الحميمة.
خرجوا مسرعين قبل أن يتداركهم الوقت، لا أحد يودع أحدًا. كلّ يمضي إلى هذه الأقدار والمصادفات اليومية، قد يلتقون بالموت وقد لا يلتقونه. لكنهم يلتقون بالموتى المضرجين بدمائهم، المتناثرة أطرافهم على الأرصفة، وعلى صدور الشوارع. يتعثّرون بكسور الزجاج وبالأحجار المتساقطة من العمارات التي أصابتها القذائف، وفي غمرة ارتباكهم يعبرون فوق رامات الدم والأكياس التي سقطت من أيدي القتلى. ليلطموا بعد ذلك وجوههم بأكفّ مفتوحة على فعلة إهانة الموتى، التي وقعوا بها.
يهرع أهلهم، كناية عمّن تبقى في المدينة، من أولادهم وزوجاتهم وإخوتهم للبحث عنهم، في أروقة المشافي وبرّادات الموتى.
ليروا في تلك الأماكن قتلى آخرين، ممددين داخل أكياس سوداء، يقفون أمامها منتظرين الممرض المرتبك من هذه المهمة. ما إن يصل وينحني ليفتح السحاب الطويل، حتى تظهر آثار الجروح والحروق والخسارات التي لم تعوّض، وحين يرتبكون مظهرين عجزهن في التعرّف إليهم، يستعينون بالتذكّر والبحث عن أثرِ باق من الولادة، أو إصابة مبكّرة في طفولتهم أو شبابهم، من الإصابات التي تترك أثراً، كوشم لا يزول. لكن كل ذلك لا يصل إلى يقين المعرفة. عمل الكثير من الشبان في الأعوام الأخيرة، على وشم أسمائهم على أذرعتهم وبعضهم وشم رقم هاتف بيته، كي لا يتيه أهلهم من بعدهم في المشافي وليحظوا بدفن يليق بشباب مضوا في الطرقات وهم يسعون لجلب الخبز والمياه إلى إخوتهم الأقلّ عمراً.
- متى سيعود شقيقك يا مريم، الذي غادر البيت منذ شهر لدفع فواتير الكهرباء؟
- حين يعود شقيقي الآخر، الذي مضى ليحرّر فلسطين.
من غير الواجب الغرق في مياه الأقوال الآسنة: أنه بات اصطياد الناس، أسهل من اصطياد العصافير. بعدما تجاوزت شهوة القتل تلك الطلقة النارية المفردة، التي لا تخطئ هدفها من الكائنات الآدمية الهشة. ما يحصل ليس سوى استرداد أكثر وحشية للهجمات الجنونية بأصابع الديناميت على أسراب الأسماك، وتلك الإغارات الجنونية على قطعان الغزلان في البوادي.
اقرأ أيضاً: بذور في وحل المخيم
-2-
وفي مراسم الحداد، يُذكر الموتى بعبورهم السريع على الأمكنة، بوميض أحاديثهم، وتوالي إخفاقاتهم، وهم يعبرون الحياة، لا بالتمهّل والأمان الذي يجتاز الناس الشوارع، عند الشارات الضوئية، بل كما يجتاز المحاربون الخنادق في جبهات القتال.
لكن ينبغي إقفال الفم، بضمّ حازم للشفتين، والتصبّر بألا تظهر أي إلماعة للأسنان. كمظهر تقليدي دال على الابتسام. الذي لا تنفك الأحاديث، التي تدور في الصالة الواسعة، عن التحريض عليه، كالأقوال التي يسردها الرجال المصطفون قرب بعضهم كأكياس البطاطا، عن عزم شركة ألمانية حلّ مشكلة الكهرباء. وأنه بعد أيام سيفتح الطريق الدولي الواصل بين حلب ودمشق. وعن شركات إنشاء صينية، قدّمت مخططاتها الهندسية وبرامجها التطبيقية، لإعادة، ببضعة شهور، تشييد كلّ المساكن المهدّمة. وأن هناك من سيعيد المدينة القديمة بأجمل مما كانت. لكن ما من دولة أو شركة تعهدت إعادة القتلى إلى أهلهم، ولا مؤاساة الجرحى بحمل غابات من الزهور إلى أمام أسرّتهم. وما من أحد رسا عليه مشروع إطلاق الحريات العامة، وفق مناقصة أو مزايدة، ولو من باب رفع العتب.
-3-
سيعود كلّ شيء أفضل مما كان. أي كان هناك إمكانية لتحقيق شيء أفضل مما كان. كيف اقتنع الناس لعقود، أن ما كان هو ذروة الكون والكينونة، ترى ما هي الوسائل الأكاديمية التي استخدمت لإقناعهم؟
يفقد الكلام الثقيل معناه، كأن يردد المؤبنون، وهم يرفعون كراريس صلواتهم إلى مستوى نظهرهم المستقيم. ليكن ذكره مؤبداً. متجاهلين أن من سيؤبدوا ذكره، وهم ليسوا سوى أولاده وأهله، سبقوه إلى القبور الموزّعة في أطراف المدينة.
يفقد البخور المتصاعد وظيفته، في شقّ طرقات عبر التضاريس الملتوية، المتجهة نحو السماء، فيتثبت كغيمة ثقيلة على صدور المؤبنين، الذين يركنون أكفهم المضمومة على بطونهم مطأطئي الرؤوس، كأنهم يحصون شظايا زجاج متناثر على الأرض.
ويستعينون بالزهور، لأن الزهور رسالة تتأوّل ذاتها، حين يفقد الكلام ضرورته ويراوغ في معناه. يتقدّم حاملوها بصمت نحو الضريح أو نحو القتيل المسجّى، أو إلى قوّة تقدّم له الشفاعة عن أخطائه المتخيلة. يضعونها برفق ويتمتمون بكلمات تطلب السكينة لروحه. "لكنها ذابلة"، تقول المرأة الملتحفة بثياب الحداد، في إشارة إلى باقات الزهور المركونة فوق الجسد المهيّأ للدفن. "من غير اللائق وداع الموتى بزهور ذابلة"، تنحني عليها تلمس أوراقها المجعدة، كأنما تريد استرجاع عطرها الذي تبدّد. يرد الحانوتي بكلام طالما كرره: "من أين نأتي بزهور يانعة في هذه الأيام؟ الطرقات طويلة، والكهرباء الغائبة عن البرادات التي تحفظها". ويضيف وهو ينظر في غير اتجاه القتيل المسجّى ووجه المرأة: "لا يزال في البلد من يزرع الزهور".
يقترب المحارب موشوم الذراعين، من باقات الزهور الذابلة، المرمية فوق قتلى أشدّ ذبولاً. يمسح بأصابعه قطرات الماء عن أوراقها. يجفّفهم بعد ذلك بطرف بنطاله، يلتف نحو صف الرجال الواقفين.
- ترى لماذا لا يتساقط الندى عليّ كذلك؟
- لأنك، لست وردة!!