الاحتجاجات ضدّ إجراءات كورونا: الكمامة كأداة هيمنة الدولة

11 سبتمبر 2020
يعتقد البعض بأنّ الكمامة لا تحمي من المرض أو العدوى (جون ماكدوغال/فرانس برس)
+ الخط -

يحتشد أسبوعياً في ألمانيا آلاف المحتجين الرافضين للإجراءات الوقائيّة ضد فيروس كورونا، هذه الجمهرة تجمع طيفاً سياسياً واسعاً، وتدخل في مواجهات مباشرة مع السلطة، وترى أن إجراءات الوقاية من كورونا التي تتبعها الدولة "الكمامة، التباعد الاجتماعي، الفحوصات الآنية..." غير فعالة، وليست إلّا وسيلة لتفعيل قوانين الطوارئ وتطبيع حالة الاستثناء التي تهيمن فيها الدولة على جسد المواطنين.

هذه الحشود تتهم الدولة بالتلاعب والتعاون مع المؤسسة الطبّية وأصحاب رؤوس الأموال في سبيل القضاء على الديمقراطيّة، لكن المثير للاهتمام هو بعض الحجج المستخدمة لكشف "مؤامرة" الدولة، إذ يرى البعض أن الكمامة، وحسب ما هو مكتوب على العلبة، لا تحمي من العدوى ولا انتقال المرض، أي أنها خدعة استهلاكيّة، وهذا ما يمكن فهمه كونها وكأي منتج شعبي يصنّع بكميات كبيرة، لابد من حصول أخطاء فيه.

لكن الرفض الحاليّ قادم من لَبسٍ يرتبط بمفهوم الكمامة نفسه، كونها لا تحمي الفرد من "الآخر" بل تحمي الفرد من أن يعدي الآخرين، وهذا ما هو واضح على توصيف العلبة "الأقنعة الجراحية أو أقنعة العزل، تساعد على الحد من انتشار الجراثيم التي تنتشر في الهواء حين يتحدث أحدهم يعطس أو يتنفس".

من تظاهرات برلين ضد التدابير الوقائية المفروضة (مايا هيتجي/Getty)

يرتبط هذا الوصف بوظيفة القناع الفرديّة، أي مدى ارتباطه بجسد حامله وقدرته على احتوائه، ومن وجهة نظر المحتشدين فرض القناع ليس إلا توظيفاً سياسياً لـ"القضاء على الديمقراطيّة"، وتكبيل الأفراد، وتحويلهم إلى أعداء محتملين لبعضهم البعض.

رفع المتظاهرون شعار "نحن الشعب" والذي عادة ما يُرفع من قبل تجمعات اليمين المتطرف، لكنه في هذا السياق يعبر عن وحدة الحشد الموجّه ضد "السلطة"، تلك التي قسمت الناس إلى مرضى وأصحاء، وطبّقت إجراءات تراهن على ما هو ضد الاحتشاد والتجمع، أي ضد ملكيّة الفضاء العام.

المثير للاهتمام أيضاً هو التجاهل التام لمفهوم العدوى من قبل المتظاهرين، تجمع الأشخاص يثير الرعب لدى المارّة والفضوليين أصحاب الكمامات، الذين يرون في هذه الحشود أسلوباً عنيفاً، ومخاطرةً تحول الفضاء العام إلى مساحة معديّة. ما يخلق انقساماً جديداً يختلف عن ذلك التقليدي "يسار- يمين"، انقساماً أساسه إما الإيمان بالخطر المحدق بالجميع، أو تجاهله بوصفه مؤامرة من قبل الدولة.

اللايقين تجاه "العدوى" وأسلوبها يستهدف الفحوصات نفسها، فهناك اتهامات تطاول المؤسسة الطبية ترتبط بمدى صحّة ومصداقية فحص الكشف عن الفيروس. سبب هذه الاتهامات وجود نسبة ضئيلة من الخطأ، تولد ما يسمّى بـ"الإيجابي المزيف"، وهو المفهوم الذي يراهن عليه البعض، ويرون أنه يكشف عدم دقة الفحص، بل وعدم جدواه في تصنيف الأفراد إلى مصاب ومعافى.

محتجة في سان دييغو الأميركية تطالب بفك القيود الإجراءات الوقائية (ساندي هافكر/Getty)

هذه الحجج يتبناها أيضاً معادو التلقيح، أولئك الذين يرون في اللقاحات جزءًا من هيمنة الدولة على أجساد المواطنين منذ الولادة، وتحول "دواخلهم" إلى موضوعة سياسيّة. هذه الفئة تدافع عن السيادة الفردية على الجسد، وتقف بوجه تدخل الدولة في "الأسرة" في سبيل حمايتها، بل يرى البعض أن هذه الإجراءات تعيدنا إلى زمن النازيّة والهيمنة المباشرة على الجسد الألماني. المفارقة أن هذه الحشود جمعت أطيافاً شديدة التناقض من أقصى اليمين والمؤمنين بنظريات المؤامرة إلى اليسار الأناركي الرافض كلياً لسيادة الدولة، في ذات الوقت وجهت الشعارات ضد بيل غيتس وأصحاب الملايين، فالأمر بالنسبة للناس مشابه لمحاولات غيتس إيجاد لقاح للأيدز. وفي حالة كورونا، الأمر يتجاوز اللقاح نحو زرع رقاقات تنصت في أدمغة المواطنين للسيطرة عليهم بصورة مشابهة لما قام به إيلون ماسك، وهنا تتداخل الشعارات ونرى أنفسنا أمام مزيج غير متجانس من المطالب التي تتمحور كلها حول "مؤامرة كورونا".

نحن هنا أمام نوعين من "المعرفة" في ظل غياب الحسم الطبيّ، هناك ما هو فردي قائم على الأبحاث الشعبيّة والمعارف المتداولة وهناك ما هو طبي ومؤسساتي وخاضع للمعايير السياسيّة. الإشكالية مستمرة في ظل "غموض" أساليب العدوى وتقنيات الوقاية، ما يفسح المجال أمام الحكايات والنظريات التي تفسر ما حدث، خصوصاً أن الوباء يخلق حسًا بالعجز لدى الأفراد ويشل القدرة على "الفعل"، أي بصورة أخرى يتولد لدى الأفراد إحساس بفقدان السيطرة على حيواتهم كونها تتحول إلى أرقام وإحصائيات تنفي الفردانية وتحول الأفراد إلى كتل مصابة وأخرى صحيّة.

المساهمون