عندما سُئِل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي عن موقفه من نزول الجزائريين إلى الشارع احتجاجاً على عزم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الترشح لولاية خامسة، كان حذراً في إجابته، وهو الصديق الشخصي للرئيس الجزائري، إذ قال إن "بلادنا (تونس) لا يمكن أن تقدم دروساً للآخرين، وما يحدث في الجزائر شأن خاص". لكنه لم يكتف بذلك، وهو الذي يرأس بلاداً تخوض تجربة ديمقراطية واعدة أوصلته إلى قصر قرطاج، لهذا أضاف أنه "من حق الشعب الجزائري أن يُعبر مثلما يشاء، وأن يختار حكامه بحرية، ولكنني بالتأكيد لا يمكن أن أقدم دروساً لأحد".
لم يحد السبسي عن نهج أسلافه. كان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة شديد الحذر في علاقاته بالجزائريين، لأنه يدرك وزنهم ورفضهم لأي شكل من أشكال المساس بشؤونهم الداخلية. ولهذا تعامل بدبلوماسية عالية خلال مختلف الأزمات التي حصلت بين البلدين. وقد التزم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بهذه المنهجية منذ البداية، إلى درجة أنه سرب للجزائريين معلومة تتعلق بنيته إزاحة بورقيبة، وأنه متمسك، بحسب بعض القريبين جداً من دوائر السلطة الجزائرية، بحماية أمن الجزائر ودعم العلاقات الثنائية. وقد فعل ذلك لكونه يعلم جيداً الصعوبات الكبرى التي يمكن أن تتولد عن أي توتر بين البلدين، ولا يستبعد أن يكون فعل ذلك لمعرفته بأهمية الجزائر لضمان الاستقرار في تونس.
لقد غضبت الجزائر من المغرب وتونس حين قبلتا الدخول في مفاوضات ثنائية مع فرنسا للحصول على الاستقلال، وذلك في وقت كانت الجزائر تخوض حرباً دامية ضد الاستعمار، في حين كان الاتفاق الحاصل بين قادة حركات التحرير في البلدان الثلاث هو الضغط جماعياً على فرنسا، حتى لا يُترك أي بلد يواجهها بشكل منفرد. ولهذا السبب استضاف بورقيبة، بعد أن استقلت تونس جزءا هاماً من جيش التحرير الجزائري وكذلك القادة السياسيين، وهو ما دفع بباريس إلى أن تنتقم من تونس المستقلة حديثاً وترسل طائراتها لقصف مدينة ساقية سيدي يوسف وتقتل العشرات من سكانها. اختلف المشهد اليوم، فالشعب التونسي قام بثورة، ولا يحق له أن يعطي ظهره للشعب الجزائري الشقيق وينكر عليه حقه في السعي نحو التغيير، خصوصاً أن الذين يتظاهرون يرددون تقريباً نفس الشعارات التي رددها من قبل التونسيون في انتفاضتهم التاريخية. لهذا تعددت المواقف حيال هذا الحراك الشعبي، إذ يتابعه التونسيون بمشاعر متناقضة. من جهة يعتقد الكثيرون أنه من حق الجزائريين التعبير عن آرائهم بكل حرية، والمطالبة بحقهم في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي يحترم إرادتهم ويقبل بمبدأ التداول السلمي على الحكم. وقد أصدر عدد من المنظمات الهامة بيانات تضامن مع الحراك الشعبي في الجزائر، من بينها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وغيرها.
لكن من جهة أخرى لم تسمح الحكومة التونسية للجزائريين المقيمين على أراضيها بتنظيم مسيرات مناهضة لترشح بوتفليقة، وذلك بحجة أن التظاهر يحتاج إلى ترخيص مسبق. ورغم أهمية هذا الاعتراض القانوني إلا أنه يبقى شكلياً، لأن الجهات الرسمية تخشى من ردود فعل السلطات الجزائرية التي لن تسكت وسترى في ذلك "عملاً غير ودي" موجهاً ضدها. كما يخشى عدد من التونسيين، ومن بينهم أطراف رسمية وأمنية، من أن انفراط الأوضاع في الجزائر سينعكس بشكل خطير على الأوضاع السياسية والأمنية بتونس. ويوجد اقتناع لدى أكثر من مسؤول وخبير في الشؤون الاستراتيجية أن بوتفليقة يعتبر من أكثر المسؤولين الجزائريين الحريصين على استقرار تونس والعارفين بشؤونها، وهو ما جعله يرتبط بصلات قوية بعدد من رجالها الفاعلين، وفي مقدمتهم الباجي قائد السبسي وزعيم "النهضة" راشد الغنوشي.
الحالة الجزائرية معقدة، وإذا لم يحصل انتقال سلمي للسلطة فإن التداعيات ستكون ضخمة على مستويين، داخل الجزائر أولاً، وعلى تونس ثانياً. فتونس تعاني منذ انهيار نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي بسبب الانفلات الأمني الكبير الذي حصل هناك، ما جعل الحدود المشتركة تتحول إلى طريق مفتوح أمام تدفق الإرهابيين في الاتجاهين، وقد أدى ذلك إلى تهديد الأمن القومي التونسي في العمق. أما إذا تأزمت الأوضاع في الجزائر، ولم يتم حلها بوسائل ديمقراطية، فإن ذلك سيضع تونس بين جبهتين ملتهبتين سيكون من الصعب على السلطات المحلية تحمل تداعياتها الخطيرة. فالجزائر تعتبر شريكاً مهماً في مجال مقاومة الإرهاب، وهي تقف بقوة مع تونس لمواجهة التهديدات التي تمثلها الجماعات المسلحة، خصوصاً بعد أن انخرط جزائريون في صفوف الجماعات المتمركزة في عدة جبال بالمناطق التونسية. ستكون الأيام المقبلة حاسمة، وقد تترتب عنها مفاجآت من الحجم الثقيل، ولهذا السبب تتابع الأوساط التونسية، سواء المشاركة في الحكم أو في المعارضة، بدقة الحالة في الجزائر لكي تتكيف مع المستجدات، وتتخذ في ضوئها المواقف الضرورية التي يجب أن تكون براغماتية في الأساس، وأن تراعي مصالح تونس، في سياق الظروف الحرجة التي تمر بها.