الائتلاف الوطني السوري.. ماذا بعد؟
انتهت قبل نحو شهر انتخابات قيادة الائتلاف الوطني السوري المعارض، وحلّت وجوه جديدة مكان سابقتها، في عملية رافقها، وما زال، لغط كثير، وشهدت استقطاباً حاداً بين الكتل والأفراد، ولم تخل من كيل اتهامات، ما جعل أصواتاً تتعالى لتشكيل جسد جديد للمعارضة، يطيح "المتآمرين" الذين يتصرفون على الطريقة "الأسدية"!
صراع" انتخابي" اتسم بالنزعة الشخصية، وعكس تأثير الداعمين والمتدخلين، وأكد وجود شروخ تتعلق بالمحاصصة وتبادل الصفقات بين الأشخاص والكتل، ليتكشف أن ما ظاهره عملية ديمقراطية، في واقعه، أبعد ما يكون عن تقاليد "تداول القيادة" التي تجعل من التنافس الانتخابي ميداناً لصراع الرؤى والأفكار والبرامج، وتقديم الجديد للجمهور.
تنافس كان ينتظر السوريون منه إجاباتٍ عن أسئلة مؤجلة وملحة، من قبيل: إلى أين نحن ذاهبون، ما الممكنات السياسية والعسكرية لإنجاز التغيير المطلوب، ما الخطة، ما البرامج على المديين، القريب والبعيد، كيف يمكن تجاوز الاستعصاء والدوران في حلقة مفرغة، لماذا أخفقنا حتى اليوم، ماذا يمكن أن نقدم للسوريين الذين أنهكهم الحصار والجوع والقتل، كيف يمكن فتح نافذة أمل في الأفق السياسي المسدود..إلخ؟ كانوا ينتظرون مضامين تغني العملية السياسية، وتدفعها إلى الأمام.
لكن، هيهات، كما يقال بالعامية، تعبيراً عن الخيبة، فقد طفت على السطح لغة تخوين وتبادل اتهامات، عن مكائد ومطابخ سرية، و"شللية" واستفراد بالقرار. وهذه لا تتكشف، عادة، إلا بعد إقصاء ومشاحنات، ما يجعل الحديث عنها يفتقد المصداقية، ويجعل تفسيرها ألصق بالصراع على المواقع، وهذا غالباً ما يتغذى على ارتباطات شخصية، إقليمية ودولية.
واقع كان له صدى سلبي في أوساط المعارضة عموماً، يصف أحد الناشطين الشباب، المتربعين على قيادة المعارضة بـ"الديناصورات" غير القادرين عن تجاوز عقدة "الأنا المتضخمة". وتسأل ناشطة بمرارة: هل من معقول أن يكون هؤلاء قدر السياسة بالثورة؟ وتتابع مخاطبة أعضاء "الائتلاف": كفى.. لقد أخطأتم بالتقدير والتصرف والتبصر مرة وألف مرة، آن الأوان لكي تتنحوا وترحمونا من أخطائكم ونزواتكم الهرمة... هذه ستكون أكبر خدمة للثورة.
في مقابل مزاج السخط المتنامي تجاه ما يحدث في "الائتلاف" وكيل الاتهامات لقياداته
بالفشل والفساد، ظهرت أصوات تمتدح الخصال الشخصية للقيادة الجديدة، وتعول عليها، فتصف الرئيس الجديد لـ "الائتلاف" بأنه "هادئ وعميق التفكير"، ونائبه بـأنه "نزيه". ويؤكد هذا الأمر، مرة أخرى، أن صورة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في العقل الجمعي للمعارضة عموماً أبعد ما تكون عن صورة المؤسسة التي لها منهج ورؤية في التفكير والعمل، لها عقل جمعي منتج، بل ينظرون إليه، بحسب ميزات شخص رئيسه "الأخلاقية"، وكأن تلك الميزات، على أهميتها، يمكن أن تكون بديلاً عن المؤسسة.
غياب الرؤية والبرامج لدى الائتلاف، وغياب الحامل الاجتماعي السياسي الممتد أفقياً وعمودياً، في نسيج القوى الفاعلة ومكوناتها في الثورة، ولدى الشعب السوري عموماً، يجعلنا نتحدث عن كيانٍ هش، بلا جذور عميقة، يعاني من ضعف التكوين السياسي ـ التنظيمي، وما يجعل أزمته تتجاوز الأشخاص وكفاءاتهم، وتدلل على خلل بنيوي، مع حفظ الفوارق بين قيادة وأخرى، في تعميق الشروخ أو محاولة تخطيها.
المفقود اليوم في "الائتلاف" هو غياب الشفافية، لم تتحدث أي من قياداته المتعاقبة للسوريين الذين تدعي تمثيلهم، أين أصابت وأين أخطأت. ماذا أنجزت، أين وصلت، ما الخلاصات التي خرجت بها. وكل ما رشح مجرد ردة أفعال لأشخاص حانقين غادروا لسبب أو لآخر مواقعهم.
كما أن الحريصين على "الائتلاف" يشيرون إلى خط بياني المنحدر لنجوميته، فعلى الرغم من أنهم ينظرون إليه "منجزاً وطنياً"، ما كان له أن يحصل ما حصل عليه من تأييد ودعم واعتراف قوى عالمية، إلا بفضل تضحيات السوريين، لكنهم يدركون أنه بحاجةٍ، اليوم، إلى جهود استثنائية وجماعية، للخروج من عنق الزجاجة، جهود جماعية من داخله وخارجه، تتصف بالانفتاح والشفافية وقبول التغيير، وتغليب الحس الوطني على الشخصي.
وهذا لن يكون دون تشخيص دقيق "للداء" الذي حال دون تحوله مؤسسة وطنية جامعة، تمثل كل ألوان الطيف السوري المعارض الفاعل من سياسيين وعسكريين ومدنيين، وتعتمد خريطة طريق وبرامج عمل واضحة، ولديها تقاليد مؤسساتية للمحاسبة والمراقبة وتقييم الأداء، وآليات عمل، تمكنها من قيادة المعركة، لإسقاط النظام، وبناء البديل المنشود.
هناك مثل شعبي "الثلم الاعوج من الثور الكبير"، وسيرة "الائتلاف" السوري، اليوم، مليئة بالأثلام، ما يعني أن قضية إصلاحه تتجاوز وجود هذا الشخص في هذا الموقع أو ذاك، بل تحتاج إلى مراجعة شاملة، تصل إلى حد تفكيك ما هو قائم، وإعادة بنائه، على أسس جديدة، كضرورة لوقف حالة التصدّع والتشظي، وتآكل المصداقية، والخروج من حالة العطالة السياسية.