الإنشاد الديني الشآمي... موشّح أوله حلب وآخره دمشق

02 يونيو 2019
تتلمذ على يد البطش كل من فخري ومدلل
+ الخط -
على وقع الآية القرآنية: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً"، كان يصحو الراحل صبري مدلل (1918 - 2006) قبل كل فجر في رمضان، ليتسحّر ويشرب القهوة، يتوضأ بعدها، ثم يرتدي بدلته ويعتمر طربوشه. يخرج من بيته في حي الجلوم الحلبي، ويتمشّى حتى جامع العبارة، حيث سيعتلي المئذنة، ويشرع في غناء الموال، مُرتجلاً على قصيدة لابن الفارض أو السهروردي، أبياتاً في حب الله والنبي محمد.

أمثال صبري مدلل في حلب، وتوفيق المنجد في دمشق، هم دفقُ موروثٍ شآميّ في الغناء الديني، ضاربٌ في القِدم، منذ مار أفرام السرياني في القرن الرابع الميلادي وإدخاله أناشيد "القدود" على الكنيسة البيزنطية، سبق بذلك الإسلام ثم صار بمتنوّعِ ألوانه الغنائية، من معالم هويّته الثقافية، كما أيضاً هويّة المجتمعات الإسلامية في بلاد الشام، وصولاً إلى مصر والعراق وتركيا وإيران.
 
في مجتمعات دينية محافظة، كانت وما زالت تخوض جدلية تاريخية إزاء القيم العَلمانية، ظلت تربة الإنشاد هي المزرعة الوحيدة لمن وُهب صوتاً حسناً، أو أحب الموسيقى والغناء، وأراد مزوالته أو احترافه. في حلب، حاضرة النغم؛ جُلّ المُطربين الكبار، من عيار محمد خيري وصباح فخري وعمر سرميني، كانوا منابتَ التوشيح الديني وتلاميذ كبار أساتذته ومعلميه، من أمثال عمر البطش وعلي الدرويش.

من هذا الباب الاجتماعي، عبر المُنشدون من الديني إلى الدنيوي، فكل عرسٍ كان يبدأ بما يُعرف بـ "مِدحة" نبوية تذكرُ الله وتستذكر رسوله. عن طريق لون "القدود"؛ وهي إبدال كلمات أغنية دارجة بأخرى ذات مضمون إيماني، يسهل على المُنشد التنقّل بين حب العبد لباريه، وحب العريس لعروسه. أعاد مُنشدٌ مُعاصر، كفايز الحلو، إدراج القدود مُستعيراً أغاني رائجة لفنان معروف، مثل كاظم الساهر.

تلاحم الديني بالدنيوي في المُجتمعات الشامية، جعل من لون الغزل الشعري، الراسخ والبارز عند العرب، مادةً للإنشاد الديني بعد إعادة توجيهها لتُخاطب الذات الإلهية وشخص الرسول، عوضاً عن المحبوبة في القصيدة الغزلية التقليدية. كان مجال التغزُّل الواسع والفضفاض حسيّاً لدرجة أثارت حفيظة أحد قساوسة حلب، فاحتج لدى أبو الوفا الرفاعي، شيخ المنشدين، في القرن الثامن عشر.

من جهة أخرى، حمل الإنشاد الديني، كما حمى، الموروث الكلاسيكي للموسيقى والغناء العربيين، وأمّن استمراريّةً له، لجهة اعتماد قوالبه الأساسية، كالموشّح والدور، التي أثّرت بدورها كما تأثّرت بألوان رقص حلّت على إيقاعاتها، جامعةً في إيماءاتها الزماني بالروحاني، كالسماح وفتلة المولوية. غابت الآلات عن التوشيح، بحكمها شرعاً أنها من المعازف، باستثناء تيار جلال الدين الرومي.
 
اليوم، يسير نور الدين خورشيد، بحكم تحدُّره من أسرة رفدت المؤسسة الدينية في سورية، على النهج التقليدي المُحافظ، معتمداً الموشّحات والقصائد المُرتجلة، مواويلَ وأدواراً، من دون إشراك الآلات الموسيقية، باستثناء العود أحياناً، وفقط عندما يُحيي حفلات في الخارج. في حين انفتحت فرقة أبو أيوب الأنصاري على الهرمنة والخلفيات الموسيقية وحتى استيراد أساليب موسيقى الهيب هوب.
 
تميّز فن التوشيح الكلاسيكي، سواءً في الغناء أو في الرقص، كالسماح والمولوية، باجتنابه المغالاة في التطريب، والابتعاد عن التنميق والتطريز النغمي والمقامي. مثال على ذلك، فاصل "اسق العطاش" لـ محمد الورّاق، حيث أرسى الشيخ عمر البطش في حلب من خلال تعليمه وتلقينه، معالمَ المدرسة الإنشادية الشامية المُحافظة، مقابل المدرسة المصرية الأكثر حيويةً وانفتاحاً على الطرب والزركشة الغنائية.

بيد أن التوشيح الشامي، بحكم مركزية دمشق الإسلامية ومركزية حلب الفنيّة؛ قد أثّر، ليس على التوشيحات المصرية الدينية فقط، وإنما على المشهد الموسيقي برمّته. يُقال إن الموسيقي المصري البارز، عبده الحمولي، كان قد أفاد من التوشيح الحلبي الذي أُرشف نصوصاً ونوتات في مُجلدات عُرفت بـ "السفائن" بجهود كبار مشايخ الإنشاد في القرن التاسع عشر، على رأسهم صالح الجذبة.
 
وإن ظلّ الأثر والتأثير مُتبادلاً، فقد ليّن الشيخ عمر البطش بعض التشدد وأزال بعض مظاهر التقشف التي سادت التقليد الإنشادي الحلبي، مُستلهماً المدرسة الطربية المصرية. محاكاةً لها؛ حيّد الجوقة وأسند للصوت المنفرد دور الغناء. في المقابل، استمر التلاقح بين مصر والشام إلى القرن العشرين، حيث درّس الشيخ الحلبي علي الدرويش كلاً من عبد الوهاب وأم كلثوم ورياض السنباطي.
 
يستمد التقشف الشامي أصوله من تراث الذكر والتوشيح، التي تعود إلى فترة حكم نور الدين زنكي لبلاد الشام زمنَ القرن الثاني عشر ميلادي؛ ففي مسعى لبناء هويّة ثقافية إسلامية جامعة في مواجهة الاستيطان الصليبي، عمل الملك العادل (زنكي) على نشر نُوى ما عُرف بالرباط، وهي زوايا سمّاها العثمانيون "تكايا" يجتمع فيها الناس، ليُغنّوا محبةَ الله ونبيه، يحشدون ويشحذون الهمم.
 
دور الإنشاد الديني في بثّ هويةٍ ثقافية بديلة للمجتمعات الشامية المُحافظة في دمشق وحلب، عاود الظهور في الزمن الراهن، أولاً في محاولة التكيّف مع علمانية نظام البعث المُعلنة منذ سبعينيّات القرن الماضي، ثم في أعقاب هجمات أيلول/ سبتمبر 2001؛ حيث شهد سوق التواشيح الدينية إضافة لظاهرة دروس الدين واجتماعات النساء القُبيسيات ازدهاراً وانتشاراً بين أبناء الطبقة الوسطى.


 
في حين أتاح النظام في سورية هذا المُتنفس الهوّياتي، ما دام لا يسعى إلى التسيّس والتحزب أو استهداف السلطة، سواءً بالخطاب أو العنف. من جملة الإجراءات التي اتخذت لضبط الفضاء العام، شُكّلت رابطة المنشدين عام 1974 وضمّت أعلاماً، كتوفيق المنجد وحمزة شكور، ذاع صيتهم بين الدمشقيين وصارت جوقتهم شرِكات حلّت في كل مناسبة خاصةً كانت أو عامة.

لتلك المناسبات ذكرى حيّة في الضمير الجمعي لدى الشآميين، في حلب أو دمشق والقدس. فمن احتفالية المولد النبوي التي استوردها الناصر صلاح الدين من مصر الفاطمية حين كان وزيراً لها في عهد زنكي، إلى ما يُعرف بـ "القوما" في رمضان؛ وهي طقوس الذِكر من وقت السحور إلى الفجر. كثيرٌ من المنشدين اشتغلوا مُسحّراتيّة، كالشيخ عمر البطش في حي الكلاسة في حلب.

كما اشتهر موشح صبري مدلل "الليلة ليلة القدر، أجمل ليالي العمر". في دمشق، لعبت المناسبات الدينية دوراً في شعبية التوشيح، منذ أيام العلامة المتصوّف عبد الغني النابلسي في القرن الثامن عشر. انطلاقاً من الجامع الأموي وفيه، كان للعام كالهجرة النبوية ونصف شعبان وليلة الإسراء والمعراج، والخاص كالزفاف والعرس والذكر والصمدية وختمية القرآن الأثر في امتداد الإنشاد وتجذّره.

في يومنا الحاضر، وأينما حلّ السوريّون، يحضر الذكر والإنشاد، تُسمع تسجيلات الكبار كالمنجد ومدلل، والجدد الصغار كالأخوة أبو شعر وخورشيد والحلو، في أحياء دمشق وحمص وحلب، أو المهجر، في المتاجر الموُزّعة على عواصم العالم من جاكرتا إلى برلين، يوائمون من خلال سماعها وإسماعها ميل الإنسان الغريزي إلى الطرب، مع ميل الشامي التاريخي نحو القيم الاجتماعية المحافظة.

دلالات
المساهمون