الإنسانيات في مهبّ أهواء الساسة

06 ابريل 2018
("ثلاجات/ مرايا"، قادر عطية، الجزائر)
+ الخط -

تُعدّ مراجعة المضامين المعرفية للمقررات والبرامج التعليمية من صميم التساؤل الثقافي. وفي الديمقراطيات الغربية، تُمارس هذه الآلية بانتظامٍ من أجل التعديل المستمر للمحتويات الدراسية، حتى تتوافق مع حاجيات المجتمع وتغيرات سوق الشغل وتحديات العولمة.

أما في العالم العربي، فدواعي إجراء هذه المراجعات النقدية عديدة وملحّة، بل هي واجب ثقافي بامتياز، خصوصاً مع تأكّد ارتهان هذه البرامج بالتحوّلات السياسية وأهواء الساسة، أي بالخلفيات الفكرية التي يمتلكها أو يفتقدها الرؤساء ووزراء التعليم العالي، وبنوعية ثقافاتهم الأصلية أو بانعدامها، فضلاً عن توجهات الكتل البرلمانية وتنافسات الأحزاب، في حال وجود مداولات شبه حرّة.

فغالباً ما يجري تسييس هذه المضامين عبر اختيارات اعتباطية، يتّخذها الحُكام بمعزل عن أية مرجعية فكرية أو مشاورات فعلية، يشارك فيها القائمون على الشأن التربوي والمتخصّصون في صياغة المقرّرات، إلى جانب المعنيين بها أصالةً: الأساتذة والطلاب.

ولعلّ أكثر هذه المضامين خضوعاً لمنطق الدولة ولحساباتها الحزبية، هي العلوم الإنسانية الحديثة، وعلى رأسها اللغويات والآداب والفلسفة والتاريخ... ولن نشير هنا إلى الفروع المبتكرة التي نشأت وتطوّرت في الغرب منذ أكثر من قرنٍ، وظلّت شبه غائبة في البلدان العربية، مثل علم الأديان المقارن، والأثنوغرافيا، والأنثروبولوجيا وفنون الدراسات الثقافية، فهي لم تدخل بعد دائرة تقاليدنا الجامعية.

فإذا اقتصرنا على العلوم الإنسانية المتداولة وجدناها لا تحظى بالاهتمام الرسمي الكافي، فلا يحتلّ ضاربُها ضمن المعدلات إلا نسبةً ضعيفة، كما أن محتوياتها المُدرَّسة في مدارج الجامعات، أبعد من أن تواكب التحديثات المستمرة التي تطال صلبَ تلك المواد، وهذا من تبعات غياب استراتيجية واضحة في ترجمة العلوم الإنسانية من لغاتها التي تنتج فيها مثل الفرنسية والإنكليزية.

فتدريس الفلسفة، على سبيل المثال، مقتصر على تكرار النصوص الكلاسيكية في أحسن الأحوال، ولا يشمل إلا نادراً ما شهدته فلسفات ما بعد الحداثة من قطائع معرفية وتراكمات وتعديلات منهاجية، كأنَّ الفلاسفة انقرضوا منذ كانط وهيغل.

تجدر الإشارة هنا إلى الدعوات السياسية التي ظهرت مؤخراً على ألسنة قادة بارزين مثل مناداة الرئيس الموريتاني سنة 2012 وسنة 2017 بإلغاء الشعر والعلوم الإنسانية التي أصبحت "عبئاً على البلاد"، حسب عبارته، وكذلك دعوة الوزير المغربي، خلال الأيام الأخيرة، إلى حذف مادة الفلسفة.

ولا بأس من استرجاع موقف الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي الذي سخر، في 2006، من إدماج "أميرة كلاف" للأديبة مدام دي لافيات (1634-1693) في برنامج المناظرات الإدارية... وكلّها دعوات تصبّ من جهة أولى في التدخّل السياسي الصفيق لتحديد العمل التربوي والمعرفي وحتى تعيين محتوياته، كما لو كان ذلك جزءً من صلاحياته، والحال أن المعرفة تتوفّر (أو ينبغي أن تتوفّر) على استقلالها مثل السلطة القضائية تماماً، ولا يمكن أن تخضع إلّا إلى شروطها الذاتية، مثل الموضوعية والحياد وصرامة المنهج. فهي بطبيعتها مادةٌ كونية، لا تحدها قيود الابتزاز والتصريحات أو التوظيفات العابرة.

وقد دأبت السلط السياسية على تبرير موقفها هذا بحجج "المردودية الاقتصادية" وأولوية الربح وهيمنة الأرقام ضمن ثقافة "النتائج"، كما درجت هذه السلط على التذكير أنَّ من واجبها التصرّف بحَكامةٍ في سيولة الشهادات وتسير انتداب المتخرّجين، بحسب احتياجات السوق، ثم وفق موازناتها التي تشكل قيداً داخلياً، وأحياناً خارجياً حين يملي صندوق النقد الدولي مثلاً إجراءات "إصلاحية" ويشترط إسناد القروض بتطبيقها، وغالباً ما تتعلّق بتقليص الوظائف في مؤسسات التعليم العالي.

ويعلّل هذا الوضع بعوامل عديدة لعلّ أهمها النظرة الاحتقارية التي كرّستها العولمة المادية وهيمنة التكنولوجيا الحديثة، بالإضافة إلى عادات الاستهلاك السريع وانتشار الكسل الذهني. وهذا ما جعل الناس تنظر إلى الفلسفة وما شابهها من المعارف كما لو كانت موادَّ مجردة وخطاباً انفصالياً عن العالم وحقائقه الملموسة.

ومن جهة أخرى، ثمّة وعي مغلوط لدى السلط السياسية، كما لدى الأولياء والأساتذة الذين يتولون توجيه الأبناء، فكلهم يرى أنَّ المواد الإنسانية لا تضمن التألق الاجتماعي-الاقتصادي لطالبيها، ولا توفّر لهم في المستقبل المنظور أية تفوّق مادي. وفي هذه النظرة، يتم تقييم مضمون المعرفة عبر مقاييس المردودية، في سوق الشغل، وقدرتها على توفير الدخل والصعود الاجتماعي.

ومن جهة أخرى، تُقرنُ هذه المواد بالمعارف النظرية المُوجهة إلى النخبة، إذ يسود الاعتقاد أنَّ هذه المواد، بحكم طبيعتها الذهنية، لا يمكن أن تتقنها الجماهير العريضة من الطلبة، كما أنها تقتضي توفّر ملكاتٍ استثنائية، وهو ما يذكِّر بموقف الغزالي (1054-1111) الداعي إلى "إلجام العوام عن علم الكلام"، بسبب لطافة براهينه أولاً، وضعف مدارك الطالبين ثانياً.

وهكذا يشكّل تدريس العلوم الإنسانية في جامعات العالم العربي رهاناً حقيقياً، يتوقّف عليه فهم الظواهر الاجتماعية وإدراك قوانين تطوّرها، وهذا مجال السوسيولوجيا، وتحليل أدوات التعبير عنها، وهذا حقل اللسانيات، فضلاً عن التساؤل عن معناها الوجودي، وهو مناط الخطاب الفلسفي.

وأمّا الحلول فتشمل من جهة أولى اتخاذ قرار سيادي يتمثّل في دعم استقلالية السلطة الثقافية عن التدخّلات العشوائية للسياسي، وذلك من خلال إفساح المجال للمتخصصين لإدماج المواد والمعارف التي يقرون تماشيها مع العقل الحديث، وهو عقل كوني منفتحٌ، ذو طبيعة نقدية تجاوزية، لا يمكنه الارتهان، في وجوده وتطوّره، بالإملاء السلطوي، أياً كانت تعلّاته.

ويشمل من جهة ثانية مواصلة العمل الدؤوب لمتابعة آخر المستجدات في ساحات العلوم الإنسانية المترامية، ونقلها إلى لغة الضاد وإشاعة مفرداتها ونصوصها فيها وعبرها، حتى تصير جزءاً من النسيج المعرفي المتاح للجميع. وتكفي مؤشراً على خطورة الوضع، تأخّر الجامعات العربية في تدريس نظريات الألسنية التي نعتبرها "حديثة" مجازاً، بعدما مرّت عقودٌ طويلة على استحداثها فتطويرها وحتى تجاوزها.

وهكذا، تعكس المكانة التي توليها دولةٌ ما للإنسانيات في المقرّرات الجامعية، مدى نضج العقل النقدي وانتشاره لدى الفئات المثقّفة. إذ لا يوحي ازدياد أعداد المهندسين ضرورةً على ازدهار ثقافي حقيقي.

إذ يرتبط التقدّم أساساً بمقياس شيوع ما سمّاه نيتشه "الحس التاريخي النقدي" أو الانخراط العضوي في فهم تلاعبات السلط السياسية لبسط نفوذها على النفسيات الفردية والضمائر الجمعية وحتى المخيال. وتظلّ أدوات هذا الحس ووسائله بيد الإنسانيات، بما هي تنقيب وحفرٌ في جذور التلاعب وأصول التحوّل عبر الدرس العلمي الناقد. وهذا ممّا فضحه ميشال فوكو في "حفريات المعرفة" (1969).

دلالات
المساهمون