15 مارس 2021
الإسلام السياسي ومعضلة التصوّف
تجدّدت أخيرا المشادات بين دعاة السلفيين ورموز الطرق الصوفية بشأن طبيعة التصوف ودوره في المجال الديني، إذ يرميه دعاة الجانب السلفي بالدجل والنصب والابتداع، بينما يرمي الطرف الصوفي تهم الإرهاب والتكفير والتطرّف على الآخر السلفي والإخوان المسلمين والشيعة جملة واحدة، وليست تلك الترّهات إلا تجلياً لـ "الفصام النكد" بين أهل الظاهر (الشريعة والفقه) وأهل الباطن (الحقيقة والإحسان)، وهو ما ابتدعته بدءاً روايات المستشرقين الغربيين في مجال الاجتماع والأنثروبولوجيا قبيل حملات الاحتلال منذ نهاية القرن الثامن عشر وفي أثنائها، بالرجوع إلى مفارقات تاريخية بين الجانبين، وتبنّاه فيما بعد تيار الإسلام السياسي الأبرز، تيار الإخوان المسلمين، الذي يمثل أصل حركات الإسلام السياسي خلال القرن الماضي، بفصل الحراك السياسي من جذوره الصوفية منذ السبعينيات، تاركاً المجال واسعاً للطرق الصوفية والجمعيات الخيرية للتمركز في ثنائية جديدة، تصطف فيها معايير الولاء للسلطة أو مناهضتها، العمل السياسي مقابل العمل المجتمعي/ الخيري، والتمسّك بظاهر الشرع في مقابل الاحتفال بالموالد وحب آل البيت عامة. والحقيقة، أن تاريخ الحراك السياسي، في معناه الأعم، والتصوف ورموزه لا ينفصلان، بل يتضافران معاً ويعكس كلاهما تمازج الفقه، ممثلاً لظاهر الشريعة، بمنطق الإحسان عبر تاريخ الإسلام وعلمائه، بما يجعل كلا الطرفين، الصوفي والسلفي، مفارقاً حقائق التاريخ ، والدين، بل والمنطق، وأبسط مثال على هذا أن احتفالات مقدم رأس الإمام الحسين إلى مصر، التي تقام حولها المشادات الدورية، هي احتفالات برمزٍ من رموز الحراك السياسي ضد الظلم والتغلب والطغيان، ما يجعل موقف الرموز الصوفية، إذ تتبنى خطاب الدولة حيال الإرهاب والعنف، مفارقة تستحق التأمل.
التصوّف والجهاد والسياسة
من أهم مفارقات تصوّف الطرق الدولتي هو الانحياز الكامل لخطاب السلطة وأولوياتها
السياسية داخلياً وإقليمياً، ويظهر هذا في عديد من تصريحات الرموز الصوفية، مثل الشيخ عبد الخالق الشبراوي في الطريقة الشبراوية، الشيخ علاء أبو العزايم في الطريقة العزائمية، والشيخ مصطفى زايد مؤسس شباب الطرق الصوفية، والتي تتماهى فيها مصطلحات الإرهاب والتشدد وحوار الأديان والسلام والتسامح ومعاداة السلفيين والتكفير ورفض المعارضة السياسية، خصوصاً من التيار الديني، ممثلاً في الإخوان المسلمين، وتجديد الخطاب الديني، بعناصر خطاب السلطة من جهة، وأولويات السياسة الإماراتية في المنطقة، مدفوعة باهتمام الولايات المتحدة وأوروبا بالجانب الصوفي باعتباره "الإسلام الجيد" المسالم، منزوع الفتيل، مقابل الإسلام التكفيري "الوهابي" أو المعارض الذي يأتي بإسلاميين إلى السلطة، كما ظهر من اتجاهات مراكز الأبحاث الغربية منذ أحداث "11 سبتمبر" في 2001 وحتى ما بعد 2011. ومن ثم يصطف التصوّف الطرقي موالياً للحكم الدموي والانقلاب على شرعية الصناديق الانتخابية ومؤيداً ما تسمى "صفقة القرن" وللهيمنة الأميركية/ الصهيونية على مقدّرات العالمين، الإسلامي والعربي، ويلعب دور النقيض في ثنائية الحراك السياسي واستقرار الظلم.
والإشكال في هذا الأمر أن حقائق التاريخ والممارسة الصوفية إنما تبرز وجهاً مغايراً لذلك الرائج عن الطرق الصوفية، في شكلها وخطابها الحالي، فعلى مدار التاريخ، كان التصوّف منبعاً وأداة ومساحة للحراك والاتصال السياسي، ونضالا متصلا لأجل حقوق العامة واستقلال وحماية بلدان العالم الإسلامي، كما كان أداة تعبوية في المجالين، السياسي والعسكري، ومساحة لتجلي الجهاد الأصغر، لتحقيق عدالة السماء في الأرض، سواء ضد ظلم الحاكم أو ظلم المهاجم/ المحتل، فلو نظرنا إلى ذكر الداعية السلفي، مدحت أبو الدهب، رموز التصوّف، مثل الإمام الجنيد ومعروف الكرخي وإبراهيم بن أدهم في سياق انتقاده الطرق الصوفية، لوجدنا أن تلك الرموز كانت تترأس ألوية جهاد الدفع والطلب ضد الدولة البيزنطية، ولم تكن أيّ منها مدعاةً للاستكانة والتبرير للظلم أو للتراشق مع مدارس العلوم الشرعية ورموز الفكر الديني.
ولو نظرنا إلى التاريخ المتأخر، تأتي ردود الطرق الصوفية في القارّة الإفريقية ضد الاستعمار الأوروبي واحدةً من أبرز حركات المقاومة الشعبية وساحات التعبئة العسكرية والسياسية لحماية الهوية الدينية والمحلية للمناطق المستهدفة، وانتمائها السياسي، ومواردها البشرية والمادية والقيمية. في هذا الصدد، يقارن كنوت فيكور بين ردود فعل الطرق القادرية والتيجانية، ضمن أخرى، للاحتلال الغربي، حيث اعتمدت الأولى على الولاء القبلي والشرعية الروحية لوالد الأمير عبد القادر، واعتمدت التيجانية على المهادنة والاستكانة إلى القوى الفرنسية، بينما اتجهت الطريقة "الفولانية" إلى جهاد الحكام المسلمين والكفار الذين سكنوا بل تعاونوا مع الاحتلال الفرنسي، وانتهت إلى تأسيس دولة صوفية قصيرة العمر بقيادة العالم الصوفي "الحاج عمر"، والسنوسية التي حولت قواعدها على مدار القارة الإفريقية إلى آلة حرب ضد الاحتلال الإيطالي، والطريقة الدندراوية، أو الرشيدية كما تعرف في السودان، والتي رأسها عبدالله حسن، وقاتلت ضد الاحتلال البريطاني، كما دعت إلى الإصلاح الاجتماعي، ووحدت جميع القبائل السودانية أربع سنوات للجهاد ضد الاحتلال.
ويأتي هذا الخط استكمالاً لإقدام الطرق الصوفية في جهاد الدفع والطلب والإصلاح الاجتماعي
والتعبئة على مدار التاريخ الإسلامي، حيث شاركت كل رموز الطرق خلال حكم الدولة الأموية وغزواتها على حدود الروم. ويحكي ابن الجوزي، في "صفة الصفوة"، عن رباط الأئمة الصوفيين في الثغور ووديان الجبال وعلى السواحل ودورهم في الغزوات والسرايا، ويأتي في مقدمتهم عبد الله بن المبارك مؤلف كتاب "الجهاد"، والذي تتصل به طرقٌ صوفيةٌ كثيرة في إسنادها، وله تراث كبير في الحرب ومعارك الروم، ويسبقه إبراهيم بن أدهم الذي طوّر مفهوم الشهادة كأفضل السبل لتأسيس المجتمع المسلم عبر جهود كل إنسان لـ "الخلاص الفردي"، وتأسس رباطه على طول الصوم والسهر على الثغور، وحاتم بن الأصم الذي توفي في ثغور الجبال، وأبو يزيد البسطامي، والسري السقطي والإمام الجنيد الذي تستمد منهم غالب الطرق الصوفية إسنادها، كذلك، قد شاركوا جميعاً في جهاد الدفع والطلب مع جماعاتهم خلال القرن الثالث الهجري. وهناك صوفية الرباط الذين تموضعوا في خفور السواحل، حيث أسسوا الزوايا والأعمال، وسميت الموانئ بأسمائهم، ومنهم في مصر أبو العباس المرسي، وسيدي بشر، وسيدي علي الشاطبي وسيدي العجمي وأبو فتح الواسطي، وكان بعضهم يشارك في الجهاد البحري، مثل الشيخ على الرازي المذبوح (ت 254 هـ)، ومنهم من سميّت جماعاتهم "فتيان الثغور" حيث كان الشيوخ يلقنون الأوراد ويدربون الفتيان على القتال. وفي نهاية هذا القرن، اتخذت الطرق الصوفية مناهجها وأشكالها التنظيمية وأدوارها لا في المجال العسكري فقط، بل في الإدارة وإنفاذ القضاء من خلال ما عرف باسم صوفية "الفتوة" الذين تمركزت أدوارهم في الضبط الاجتماعي وإنفاذ القانون ورد المظالم وحماية النسيج المجتمعي لإنفاذ العدل والدفاع عن الأبرياء، ووصف محيي الدين ابن عربي مقامهم بأنه "مقام القوة"، بينما عرّفها الإمام الشعراني بأنها عهد وميثاق بتكريم المجاهدين والحراس بالمال والطعام ورعاية أطفالهم، وأن يسأل المسلم الله الشهادة في سبيله".
كما اتخذت الصوفية منحى ما يعرف اليوم بالجماعات الحقوقية، فيما ورد من تاريخ وسير أعلام التصوف، مثل العز بن عبد السلام والشيخ أحمد الدردير، وكان العز بن عبد السلام قد أتى إلى مصر بعد أن أفتى بحرمة بيع السلاح للأعداء (الصليبيين) إبّان الدولة الفاطمية في مصر، فأفضى الأمر بالملك الأشرف إسماعيل، حاكم دمشق آنذاك، بنفيه، فتوجه إلى مصر، وتزعم حركةً جماهيريةً تطالب بتخفيف الضرائب المفروضة من الأمراء المماليك، فأفتى بأن بيعهم وشراءهم وزواجهم وطلاقهم باطل، كونهم لا يزالون "عبيداً"، بحسب أحكام الشريعة، وأمر ببيعهم في الأسواق، وتفريق الأموال على الفقراء، وسمي من حينها "بائع المماليك"، وكان كبير القضاة في مصر، وإماماً للصوفية، ومحارباً شارك في الجهاد ضد الحملة الصليبية الخامسة مع السادة الأعلام، الحسن الشاذلي، ومجد الدين القشيري، ومحيي الدين بن سراقة، والمجد الإخميمي، في معركة المنصورة (647 هـ) تحت لواء السلطان الكامل ومعركة عين جالوت مع الملك المظفر سيف الدين قطز، وأفتى بحرمة فرض الضرائب على العامة، قبل أن يتساوى ما يملكه الأمراء والملك مع ما يملكه العوام، وأن تفرض الضرائب بعد ذلك، إن كان من حاجة إليها، وطبق الملك المظفر فتواه. وعلى خطاه كان الملوك والأمراء يأتون إلى الشيخ الدسوقي لحل الأزمات الداخلية بين الحكام والعامة. وحكى الجبرتي عن دور الشيخ أحمد الدردير في الذود عن حقوق العوام وواقعة اعتداء أمراء مراد بك على أحد الجزارين، ونهب بضائعه وأمواله وتجمع العامة حول الشيخ الدردير الذي قاد هجوماً مضاداً على الأمراء، ما أفضى بالوالي لإجبارهم على رد كل ما نهبوه حتى يستقر الأمن في المجتمع. ومنذ ذلك الحين، تحولت الروابط الصوفية لجماعات حقوقية تذود عن حقوق العوام وتقيد سلطة الحكام في فرض الضرائب والرسوم.
وفي العهد العثماني، اتسعت قوة الجماعات الصوفية لتجتمع الشعبية الجماهيرية بقوة المناصب السياسية، حيث أفسح الحكم العثماني دوراً سياسياً كبيراً للقيادات الصوفية، وكان أبرزهم عمر مكرم، نقيب الأشراف الذي كان له دور مهمّ مع الشيخ محمد السادات، في تعيين مراد وإبراهيم بك في السلطة على مصر، قبل أن يقود تمرداً شعبياً لحماية أمان العامة وأملاكهم الخاصة. وكانت أدوات الفعل السياسي تشمل وقف المراسم الدينية، كالموالد والاحتفالات، وإلقاء الخطب السياسية في أيام الجمعة، وقيادة المقاومة الشعبية المسلحة ضد كل عدوان من الحكام أو الغزاة، وغلق الأسواق ومنع التجارة والمعاملات وسد الطرق ووقف الحياة العامة، وكان تفعيل تلك الأدوات إنما يتم لحماية حقوق المواطنين ضد بطش الحكام والأمراء، قبل أن يمتزج الدور السياسي والحقوقي مرة أخرى بالعسكري في أثناء الحملة الفرنسية على مصر 1798 التي قاد فيها الشيخ أحمد السادات "الثورة المصرية الأولى"، بينما قاد عمر مكرم "الثورة الثانية" عام 1800 ميلادي، ما أدى إلى نفيه إلى فلسطين. وبعدما استعاد العثمانيون سيطرتهم على مصر، ساهم مكرم في تعيين محمد علي والياً على مصر، قبل أن يقود تمرّداً شعبياً ضد سياساته الظالمة، ما أدى، هذه المرة، إلى عزله عن منصبه، وتعيين نقيب الأشراف من أسرة السادات التي كانت موالية لمحمد علي سياسياً، وكانت تلك بداية التزاوج بين السلطتين، الصوفية والسياسية، باعتبار الأولى تبعاً عن، وخاضعة لشروط الحكام.
ومن ثم، انعكس استقطاب السلطة السياسية لشرعية التصوّف على خيارات الإسلام السياسي،
ممثلاً في جماعة الإخوان المسلمين الذي بدأ في نشأته حركة مجتمعية، تعكس كل الأطياف الفكرية والمرجعيات من تصوّف وأعراف وأخلاق وهوية وطنية ودينية، ثم تمترس في أفكار العمل السياسي المناهض للسلطة وتبنّي الخطاب "الوهابي"، فيما عرف بـ "تسليف الجماعة"، وابتعد تدريجياً عن أولويات إصلاح المجتمع والاستمداد من مرجعياته الفكرية المتنوعة، تزامناً مع تبديل المناهج التعليمية داخل الجماعة منذ سبعينيات القرن الماضي، ليصير الصراع سياسياً صرفاً، يحتزب فيه الإخوان المسلمون ضد السلطة السياسية وأعوانها من صوفية ومؤسسات دينية للتعليم والإفتاء (الأزهر).
أما على الجانب الفكري، فقد نشأ الفصام بروايات المستشرقين عن الصوفية والفقهاء، باعتبارهم أطرافاً متنافرة وسياقات منفصلة للفكر والممارسة الدينية. ولو صح هذا على مستوى المشاهدات البحثية وتباين المساحات التي يحتلها كل فريق، فالحقيقة أن ممارسة التصوف والفقه وسير الرموز لكليهما تعكس تماهياً كبيراً في المساحتين، فلطالما انتمى علماء الأزهر ورؤوسُه إلى الطرق الصوفية، ولطالما ترأس الطرق الصوفية علماء الفقه ورموز القضاء، كما سبق شرحه، وإنما كان استقطاب الدولة الحديثة تلك المؤسسات وتحريكها في فلك شرعنة الظلم وتبرير الاستكانة إليه، بدعوى ترسيخ الاستقرار المجتمعي، أو الحفاظ على ثوابت الهوية، وكذلك تراجع تلك المؤسسات منذ نهاية الحكم العثماني عن الجهاد ضد المحتل وتعبئة الجماهير ضد الظلم السياسي، إنما كان واحداً ضمن أسباب الشقاق بين الإسلام السياسي، كحركة إصلاح و/أو تغيير، وتلك المساحات، والآن حيث ينسحب بساط الشرعية الدينية من تحت أقدام الإسلام السياسي، بدعوى التكفير والإرهاب، ليس ذلك إلا للخصومة السياسية مع أنظمة الحكم الحالية وظهيرها الإقليمي والدولي، إنما يدعو الأخير إلى إحياء جذور التصوف في تربته الفكرية وتكوينه الاجتماعي، وإعادة توجيه البوصلة، بحيث يملأ فراغ البون بين خطاب السلطة الحالي وواقع الظلم والقهر والإفقار الذي تشرعنه المؤسسات الدينية، وتظهر له ديناً جديداً منزوع الفتيل، لا محل فيه للحراك السياسي والاجتماعي، لا دفاع فيه عن كل وأي مظلوم، بل يكرّس التبعية والاضطهاد، ويقتل آمال الفقراء في عدالة السماء ناجزة في الأرض.
التصوّف والجهاد والسياسة
من أهم مفارقات تصوّف الطرق الدولتي هو الانحياز الكامل لخطاب السلطة وأولوياتها
والإشكال في هذا الأمر أن حقائق التاريخ والممارسة الصوفية إنما تبرز وجهاً مغايراً لذلك الرائج عن الطرق الصوفية، في شكلها وخطابها الحالي، فعلى مدار التاريخ، كان التصوّف منبعاً وأداة ومساحة للحراك والاتصال السياسي، ونضالا متصلا لأجل حقوق العامة واستقلال وحماية بلدان العالم الإسلامي، كما كان أداة تعبوية في المجالين، السياسي والعسكري، ومساحة لتجلي الجهاد الأصغر، لتحقيق عدالة السماء في الأرض، سواء ضد ظلم الحاكم أو ظلم المهاجم/ المحتل، فلو نظرنا إلى ذكر الداعية السلفي، مدحت أبو الدهب، رموز التصوّف، مثل الإمام الجنيد ومعروف الكرخي وإبراهيم بن أدهم في سياق انتقاده الطرق الصوفية، لوجدنا أن تلك الرموز كانت تترأس ألوية جهاد الدفع والطلب ضد الدولة البيزنطية، ولم تكن أيّ منها مدعاةً للاستكانة والتبرير للظلم أو للتراشق مع مدارس العلوم الشرعية ورموز الفكر الديني.
ولو نظرنا إلى التاريخ المتأخر، تأتي ردود الطرق الصوفية في القارّة الإفريقية ضد الاستعمار الأوروبي واحدةً من أبرز حركات المقاومة الشعبية وساحات التعبئة العسكرية والسياسية لحماية الهوية الدينية والمحلية للمناطق المستهدفة، وانتمائها السياسي، ومواردها البشرية والمادية والقيمية. في هذا الصدد، يقارن كنوت فيكور بين ردود فعل الطرق القادرية والتيجانية، ضمن أخرى، للاحتلال الغربي، حيث اعتمدت الأولى على الولاء القبلي والشرعية الروحية لوالد الأمير عبد القادر، واعتمدت التيجانية على المهادنة والاستكانة إلى القوى الفرنسية، بينما اتجهت الطريقة "الفولانية" إلى جهاد الحكام المسلمين والكفار الذين سكنوا بل تعاونوا مع الاحتلال الفرنسي، وانتهت إلى تأسيس دولة صوفية قصيرة العمر بقيادة العالم الصوفي "الحاج عمر"، والسنوسية التي حولت قواعدها على مدار القارة الإفريقية إلى آلة حرب ضد الاحتلال الإيطالي، والطريقة الدندراوية، أو الرشيدية كما تعرف في السودان، والتي رأسها عبدالله حسن، وقاتلت ضد الاحتلال البريطاني، كما دعت إلى الإصلاح الاجتماعي، ووحدت جميع القبائل السودانية أربع سنوات للجهاد ضد الاحتلال.
ويأتي هذا الخط استكمالاً لإقدام الطرق الصوفية في جهاد الدفع والطلب والإصلاح الاجتماعي
كما اتخذت الصوفية منحى ما يعرف اليوم بالجماعات الحقوقية، فيما ورد من تاريخ وسير أعلام التصوف، مثل العز بن عبد السلام والشيخ أحمد الدردير، وكان العز بن عبد السلام قد أتى إلى مصر بعد أن أفتى بحرمة بيع السلاح للأعداء (الصليبيين) إبّان الدولة الفاطمية في مصر، فأفضى الأمر بالملك الأشرف إسماعيل، حاكم دمشق آنذاك، بنفيه، فتوجه إلى مصر، وتزعم حركةً جماهيريةً تطالب بتخفيف الضرائب المفروضة من الأمراء المماليك، فأفتى بأن بيعهم وشراءهم وزواجهم وطلاقهم باطل، كونهم لا يزالون "عبيداً"، بحسب أحكام الشريعة، وأمر ببيعهم في الأسواق، وتفريق الأموال على الفقراء، وسمي من حينها "بائع المماليك"، وكان كبير القضاة في مصر، وإماماً للصوفية، ومحارباً شارك في الجهاد ضد الحملة الصليبية الخامسة مع السادة الأعلام، الحسن الشاذلي، ومجد الدين القشيري، ومحيي الدين بن سراقة، والمجد الإخميمي، في معركة المنصورة (647 هـ) تحت لواء السلطان الكامل ومعركة عين جالوت مع الملك المظفر سيف الدين قطز، وأفتى بحرمة فرض الضرائب على العامة، قبل أن يتساوى ما يملكه الأمراء والملك مع ما يملكه العوام، وأن تفرض الضرائب بعد ذلك، إن كان من حاجة إليها، وطبق الملك المظفر فتواه. وعلى خطاه كان الملوك والأمراء يأتون إلى الشيخ الدسوقي لحل الأزمات الداخلية بين الحكام والعامة. وحكى الجبرتي عن دور الشيخ أحمد الدردير في الذود عن حقوق العوام وواقعة اعتداء أمراء مراد بك على أحد الجزارين، ونهب بضائعه وأمواله وتجمع العامة حول الشيخ الدردير الذي قاد هجوماً مضاداً على الأمراء، ما أفضى بالوالي لإجبارهم على رد كل ما نهبوه حتى يستقر الأمن في المجتمع. ومنذ ذلك الحين، تحولت الروابط الصوفية لجماعات حقوقية تذود عن حقوق العوام وتقيد سلطة الحكام في فرض الضرائب والرسوم.
وفي العهد العثماني، اتسعت قوة الجماعات الصوفية لتجتمع الشعبية الجماهيرية بقوة المناصب السياسية، حيث أفسح الحكم العثماني دوراً سياسياً كبيراً للقيادات الصوفية، وكان أبرزهم عمر مكرم، نقيب الأشراف الذي كان له دور مهمّ مع الشيخ محمد السادات، في تعيين مراد وإبراهيم بك في السلطة على مصر، قبل أن يقود تمرداً شعبياً لحماية أمان العامة وأملاكهم الخاصة. وكانت أدوات الفعل السياسي تشمل وقف المراسم الدينية، كالموالد والاحتفالات، وإلقاء الخطب السياسية في أيام الجمعة، وقيادة المقاومة الشعبية المسلحة ضد كل عدوان من الحكام أو الغزاة، وغلق الأسواق ومنع التجارة والمعاملات وسد الطرق ووقف الحياة العامة، وكان تفعيل تلك الأدوات إنما يتم لحماية حقوق المواطنين ضد بطش الحكام والأمراء، قبل أن يمتزج الدور السياسي والحقوقي مرة أخرى بالعسكري في أثناء الحملة الفرنسية على مصر 1798 التي قاد فيها الشيخ أحمد السادات "الثورة المصرية الأولى"، بينما قاد عمر مكرم "الثورة الثانية" عام 1800 ميلادي، ما أدى إلى نفيه إلى فلسطين. وبعدما استعاد العثمانيون سيطرتهم على مصر، ساهم مكرم في تعيين محمد علي والياً على مصر، قبل أن يقود تمرّداً شعبياً ضد سياساته الظالمة، ما أدى، هذه المرة، إلى عزله عن منصبه، وتعيين نقيب الأشراف من أسرة السادات التي كانت موالية لمحمد علي سياسياً، وكانت تلك بداية التزاوج بين السلطتين، الصوفية والسياسية، باعتبار الأولى تبعاً عن، وخاضعة لشروط الحكام.
ومن ثم، انعكس استقطاب السلطة السياسية لشرعية التصوّف على خيارات الإسلام السياسي،
أما على الجانب الفكري، فقد نشأ الفصام بروايات المستشرقين عن الصوفية والفقهاء، باعتبارهم أطرافاً متنافرة وسياقات منفصلة للفكر والممارسة الدينية. ولو صح هذا على مستوى المشاهدات البحثية وتباين المساحات التي يحتلها كل فريق، فالحقيقة أن ممارسة التصوف والفقه وسير الرموز لكليهما تعكس تماهياً كبيراً في المساحتين، فلطالما انتمى علماء الأزهر ورؤوسُه إلى الطرق الصوفية، ولطالما ترأس الطرق الصوفية علماء الفقه ورموز القضاء، كما سبق شرحه، وإنما كان استقطاب الدولة الحديثة تلك المؤسسات وتحريكها في فلك شرعنة الظلم وتبرير الاستكانة إليه، بدعوى ترسيخ الاستقرار المجتمعي، أو الحفاظ على ثوابت الهوية، وكذلك تراجع تلك المؤسسات منذ نهاية الحكم العثماني عن الجهاد ضد المحتل وتعبئة الجماهير ضد الظلم السياسي، إنما كان واحداً ضمن أسباب الشقاق بين الإسلام السياسي، كحركة إصلاح و/أو تغيير، وتلك المساحات، والآن حيث ينسحب بساط الشرعية الدينية من تحت أقدام الإسلام السياسي، بدعوى التكفير والإرهاب، ليس ذلك إلا للخصومة السياسية مع أنظمة الحكم الحالية وظهيرها الإقليمي والدولي، إنما يدعو الأخير إلى إحياء جذور التصوف في تربته الفكرية وتكوينه الاجتماعي، وإعادة توجيه البوصلة، بحيث يملأ فراغ البون بين خطاب السلطة الحالي وواقع الظلم والقهر والإفقار الذي تشرعنه المؤسسات الدينية، وتظهر له ديناً جديداً منزوع الفتيل، لا محل فيه للحراك السياسي والاجتماعي، لا دفاع فيه عن كل وأي مظلوم، بل يكرّس التبعية والاضطهاد، ويقتل آمال الفقراء في عدالة السماء ناجزة في الأرض.
دلالات
مقالات أخرى
26 يناير 2021
08 اغسطس 2020
29 مايو 2020