الإسكندرية.. المدينة التي لم تعد ترى البحر

07 أكتوبر 2017
+ الخط -

استيقظ سكّان الإسكندرية، من قاطني منطقة سيدي جابر، في الجزء المُطل على البحر منها، وفتح كل منهم شرفة شقته، كما اعتادوا في كل صباح؛ لاستنشاق هواء البحر العليل والتمتُّع بالمشهد؛ فلم يجدوا البحر أمام أعينهم!

وجدوا كتلًا خرسانية، تشكّل جسرًا يُبنى أسفله كراج كبير للسيارات، ضمن مشروع سياحي غامض نوعًا ما؛ يتم خلاله إنشاء مُجمّع ترفيهي على البحر، في هذه المنطقة. أي أن الاستمتاع بمشهد البحر وهوائه العليل لم يعد مسموحًا لقاطني العمارات السكنية بالمجان؛ فمَن يريد الاستيقاظ ليشاهد البحر يجب أن يدفع المقابل!

هذا المنطق في التعامل مع رؤية البحر أصبح هو السائد في مدينة الإسكندرية؛ بفعل تغيّرات متراكمة على مدار سنوات. صحيح أنه لا يوجد إحصاء دقيق لهذا الأمر، إلا أن أقرب الإحصائيات للمنطق تقول إن 60% من كورنيش بحر الإسكندرية ليس متاحًا للمشي أو الجلوس المجاني؛ للاستمتاع برؤية البحر وتنسُّم هوائه.

معظم نسبة الـ 60% هذه تشغلها الكافيهات؛ أي المقاهي الراقية التي انتشرت بمعدل هيستيري متصاعد خلال الأعوام العشر الأخيرة. وأسعار المشروبات والمأكولات في هذه المقاهي مرتفعة نسبيًا، بل إنها تبلغ أسعارًا مبالغًا فيها للغاية في بعضها؛ لتعويض الإيجار السنوي المرتفع نسبيًا الذي يدفعه صاحب كل كافيه.

وبحسبة بسيطة؛ تجد أن معظم هذه الكافيهات تحقق أرباحًا مرتفعة للغاية، خاصة خلال موسم الصيف، الذي تزدحم خلاله المدينة بالزائرين من كل بقاع مصر؛ خاصة أن الإسكندرية -بين مدن مصر- لا تزال في المقدمة كمدينة تصلح لقضاء الإجازة، بالنسبة للأسر متوسطة الدخل.

الأمر ليس مقتصرًا على المساحة التي يشغلها الكافيه نفسه؛ نظرًا لأن عددًا كبيرًا من هذه الكافيهات تخصص مساحة من الأرض بجوار الكافيه نفسه كـ "كراج" لسيارات الزبائن.

خلال الصيف المنقضي، كنت أسير بمفردي على كورنيش البحر، وفكرتُ بسلامة نيّة أن أجلس على السور الملاصق لأحد الكافيهات المشهورة؛ لأنتبه أن سور البحر في هذه المنطقة تم دهانه بمادة سوداء لزجة كريهة الرائحة؛ لمنع السائرين من الجلوس بالقرب من الكافيه؛ خوفًا عليهم من إزعاج قد يتسبب فيه من يجلسون أمام البحر من دون أن يدفعوا مالًا مقابل هذا.

هل تلتزم كل هذه الكافيهات بالمساحة المحددة لها قانونًا، أم ينتهكون مساحة أكبر؛ لوضع المزيد من الطاولات والكراسي، وجني المزيد من الأموال؟ بالطبع الرقابة تكاد تكون منعدمة، خاصة ومدينة الاسكندرية تسجّل كل يوم أرقامًا جديدة في الفوضى الإدارية على مستوى الحكم المحلي؛ يكفي دليلًا على هذا أن آخر إحصائية رسمية لعدد العقارات المخالفة، أو المقامة بدون ترخيص من الأساس، تجاوز الستين ألف عقار.

على رصيف البحر، في الجهة المقابلة لأحد الفنادق الكبرى في الإسكندرية، بالذات في أيام الصيف، ستجد دومًا تجمعًا للشباب والمراهقين، طوال اليوم، يحاولون رؤية الفتيات اللائي يسبحن بالمايوهات في مياه الشاطئ المغلق المخصص للفندق العملاق.

صحيح أن إدارة الفندق وضعت سياجًا من الخشب والخوص؛ ليحجب الشاطئ وهذا الجزء بالكامل من البحر عن أعين المارة، إلا أن الشباب عادةً ما يجدون طرقهم الخاصة لمتابعة ما يجري داخل عالم الشاطئ الخاص، الذي يجعل مساحة لا بأس بها من البحر محجوبة تمامًا عن الأعين.

أمًا لو أردتَ الجلوس على سور الكورنيش في منطقة "محطة الرمل"، المنطقة الأشهر في المدينة والتي يُطلق عليها "وسط البلد"؛ ستجد أن عددًا من الباعة الجائلين قاموا بالاستيلاء على أجزاء كبيرة من سور الكورنيش؛ ليسمحوا لزبائنهم فقط بالجلوس عليها.

خلال واحد من أشهر الفيديوهات المُسرّبة للسيسي، وهو يتحدث لضباط من القوات المسلحة، عن السياسة الاقتصادية المناسبة للدولة كما يراها، قال وكأنه يوجه كلامه للمواطن المصري: "هتدفع؟ هتدفع؟! هوريك اللي عمرك ما شوفته، طالما هتدفع! ببلاش ده أنا معرفوش!".

لذا يبدو أن الأمور في الاسكندرية تسير على الخط الأمثل من وجهة نظر الدولة؛ فلا بد للجميع أن يدفع، حتى لو كان المقابل هو جلسة على البحر. ربما لو حاولتْ فيروز نفسها أن تغني في أيامنا هذه: "شط اسكندرية يا شط الهوى" كما فعلتْ في الماضي؛ لطالبوها أولًا بالجلوس في أحد الكافيهات، ودفع ثمن المشروب؛ لتغني للبحر كما تريد. المهم أم تدفع!


 

المساهمون