الأوبرا في الكويت ضرورة لا ترفاً
أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي أبداً، ودار الأوبرا في الكويت جاءت متأخرة عقوداً طويلة، لكن المهم أنها أتت، لتكون رمزا وفق ما يتمناه الكويتيون لعودة الصورة الثقافية والفنية المميزة التي عرفت بها بلادهم طوال عقود، قبل أن تشوب تلك الصورة شوائب كثيرة، تحت وطأة أزمة الغزو العراقي لها في العام 1990 أولاً، ثم تجاذبات سياسية وفكرية كثيرة، جعلتها تتقهقر عن المشهد الثقافي العربي خلال العقدين الأخيرين تدريجيا.
أستغرب ممن ينظرون إلى أي مظهر من مظاهر الفن أو الثقافة وأدواتهما والبيئات الحاضنة لها، باعتبارها نوعا من الترف والكماليات التي لا ينبغي للحكومات أن تختفي بها، أو تهتم بتوفيرها لشعوبها، قبل أن تكتمل العناصر التقليدية للحياة الكريمة، وهذه النظرة هي التي جعلت بعض الكويتيين ينتقدون خطوة بناء مركز ثقافي متطور، كالمركز الذي افتتح في العاصمة الكويتية قبل أيام، محتضناً أول دار للأوبرا في تاريخ الكويت، باعتبار أن شكاوى المواطنين مستمرة من تردّي الخدمات العلاجية والتعليم الجامعي، في ظل تأخر الحكومة في إنشاء مستشفياتٍ وجامعاتٍ تفي بالحاجة على أكمل وجه!
وجهة نظر مفهومة، ويمكن قبولها لو أن بناء الصرح الثقافي تم على حساب المستشفيات والجامعات التي كان من المفترض افتتاحها، لكن هذا غير صحيح، وكل في فلك يسبحون كما هو واضح تماماً! والفشل في مجال لا ينبغي أن ينسحب بالضرورة على المجالات الأخرى، كما أن المطالبة بحقٍّ من الحقوق المهمة، والتي يتفق عليها الجميع، لا ينبغي أن يكون معناه الوقوف بوجه غيره من الحقوق التي يرى المطالبون أنها أقل أهمية، فالأهمية نسبية وفقا لمنطقي التاريخ والحاجة، ولو أن الدول والحكومات تبنت رأي من يطالب بتوفير دعامات الإنسان المعاصر بالدور الذي يناسب فئة دون أخرى لما انتهى الدور أبداً. ولو أن الكويت نفسها رسمت طريقها منذ نشأتها الحديثة نحو المستقبل وفقا لهذه الخريطة، لما قدمت، منذ خمسينيات القرن الماضي، هداياها الثقافية الكبرى للإنسان العربي كمجلتي العربي وعالم الفكر وسلسلتي عالم المعرفة والمسرح العالمي ومعرض الكويت الدولي للكتاب، ومئات المسرحيات والأعمال الدرامية والموسيقية التي صنعت تلك الصورة الباهرة للكويت في الذاكرة العربية الراهنة، بعيدا عن كلاسيكية الصورة النفطية.
في حفل افتتاح مركز جابر الأحمد الثقافي ودار الأوبرا الأنيق الذي شمله أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد الصباح، برعايته، وقدّر لنا أن نكون من حضوره شهدنا واحدةً من العلامات الكويتية الفارقة، تجلت بتاريخ ثقافي وفني، امتد على ما يقرب من قرن، واستطاع مخرج الحفل تلخيصه في ساعة واحدة، ليثبت أن إنجاز البشر على الصعيد الثقافي يفوق إنجاز الحجر، وأن هذا الصرح الفخم الذي تلألأ على شاطئ الخليج العربي بأربعة لآلئ مثلت مبانيه الواسعة، بمسارحها وقاعتها ومكتباتها، لا تساوى شيئاً حقيقياً بلا إنجاز إنساني ثقافي وفني، يعيد الماضي الكويتي القريب ويتفوق عليه. وعندها فقط، ستكون تلك المؤسسة الثقافية الجديدة لبنةً حقيقيةً، تضاف إلى بناء الإبداع، لتعني المزيد من فرص التقدم والتطور الحر، ولتعني أن أجيالا كثيرة ستجد فرصتها من الزاد الثقافي الذي كانت الكويت دائماً سباقةً في تجذيره وتصنيعه، وتقديمه بكل حرية وأناقة، ليس للكويتيين وحسب. ولكن، لكل العرب آيضا.
ولن يكتمل هذا كله إلا بأجواء منفتحة وحريات كاملة، يتطلبها الفعل الثقافي والفني ليحلق عالياً... تماما كما حلقت راقصات الباليه الصغيرات في سماء دار الأوبرا الجديدة متجاوزاتٍ، برشاقتهن وخفتهن وبراعتهن على أنغام أوبرالية تجانست ما بين المحلي والعالمي، كل النقاشات التي سبقت ورافقت وأعقبت حفل الافتتاح عن جدوى وجود دار للأوبرا في بلادٍ كالكويت.