الأفلام القصيرة ليست مجرّد سينما، إنّها قطعٌ فنّية منها، قطعٌ سينمائية خالصة من الإدّعاء والتّزييف والاحتيال الذي تُمارسه أحيانًا الأفلام الطويلة، والتي تصطادك بحبكة تقيّدك لوقت طويل، إلى نهاية الفيلم في انتظار أن تنفرج الأزمة. فتغتاظ منها إذا لم تفعل، بينما الأفلام القصيرة ترمي في حضنك قنبلة وتنتهي، وتبقى محتارًا في ما تفعل بها.
لا تضيع وقتك
جمالية الأفلام القصيرة تكمنُ في الكثافة العالية في التّناول الفنّي، والتي توفّر للمشاهد فكرة لافتة في شكلٍ مؤثّر ومُختزل، يلامسُ الأسئلة الإنسانية الكبرى، عبر لمحات فنّية موجزة وعميقة، تقدّم طبقًا سينمائيًا، بطابع يتراوح بين بساطة وقوّة واحترافية السّينما، ودفء وصخب الرّوح الهاوية.
في "حب مشارك La moure partagé" من إيطاليا، يجول مصوّر فوتوغرافي بيوت الذين يعانون من الوحدة نساء ورجالًا، بكاميرا فورية من نوع خاص، يكفي أن تلتقط ثلاث صور حتى يظهر إلى جانب صاحبها، الشّخص الذي يشاركه مشاعر الإعجاب، "من هنا جاء اسم الفيلم".
هكذا يجوب المصوّر، أحياء ومنازل الوحيدين في روما، ليلتقط صورًا للمشاعر العاطفية الخفية، التي لا يعترف أصحابها بها حتى لأنفسهم أحيانًا، إلى أن يلتقي بامرأة شابة عمياء، يتبيّن أنها حب حياته، فيجد نصيبه هو أيضًا من السّعادة التي يحملها للآخرين، في فيلم بسيط ورومانسي.
لا أجيد الرقص
في فيلم "time code" من إسبانيا الفائز بالسّعفة الذهبية للفيلم القصير في "كان" هذه السنة، يجرنا إلى عالم حارسة مصنع، تمرّ عليها ساعات العمل ببطء شديد، حتى تكتشف أن زميلها في النوبة اللّيلية، يرقص في ردهات المصنع ومرآبه. فتقرر مشاركته الرّقص، وتترك له ملاحظة بالزّمن ورقم الكاميرا حتى يشاهد رقصتها، ويفعل الشّيء نفسه.
إلى أن يقوما بأداء رقصة مشتركة مفعمة بالحيوية، تعيد للرّدهات الخالية الألفة المفتقدة، ويكتشف صاحب المصنع أمرهما، فيما يشرح لحارس جديد يخلف الحارس الرّاقص المستقيل طريقة المراقبة، ويشاهد صدفة مقطع الرّقصة المشتركة للحارسين، في نهاية الرّقصة يقول الحارس الجديد لصاحب العمل، بنبرة معتذرة "لكنني لا أجيد الرقص".
في الفيلم السلوفيني "الحب في القمّة"، يعيش زوجان سلوفانيان عجوزان على هامش العالم، مقتنعين بحياة الفقر التي يعيشانها بحبّ، يمضيان وقتهما في جدال محبّب، يكسران به عجلة الوقت المُنذرة بالفراق قريبًا. تخدعنا الكاميرا في البداية ونعتقد أنّهما يعيشان في مزرعة شاسعة، لنكتشف في نهاية الفيلم، أنهما بنيا منزلهما الصغير وحوشًا للدّجاج، على سطح عمارة، في مدينة عملاقة لا تنتبه لوجودهما.
تقطير التّجربة الإنسانية
يجيب السينمائي المغربي محمد بنعزيز، في تصريح "لجيل" عمّا يجعل الفيلم القصير مختلفًا؟ بأنّ المظهر الأول للاختلاف، هو القدرة على تقطير التّجربة الإنسانية في وقت قصير، ويشترطُ هذا رؤيةً جمالية قادرة على التّكثيف والتّرميز، ويتأتّى هذا لمخرج يملك وجهة نظر ملتصقة بجلده، وجوهرية لا مستعارة.
المظهر الثاني هو أن تقرن وجهة النّظر الأصيلة، بحسن استخدام وسائل المخرج وهي: النص، الأداء، الأضواء، الألوان، التقطيع، والمونتاج، لخلق لغة سينمائية.
وضمن الفئة النّادرة التي تعاود الاشتغال على الفيلم القصير، بعد تقديم أفلام روائية، يعلن مرّة أخرى المخرج المغربي هشام العسري الذي يشتغل خارج السّياق التجاري، عن كسر القواعد المعتادة في المشهد السّينمائي المغربي، وانجاز الفيلم القصير"casa one day"، بعد العديد من الأفلام الطويلة النّاجحة. وهو فيلم تجريبي حول لقاء طفل بمدينة الدار البيضاء التي قدّمها العسري كشخص حقيقي، على خطى Chris Marker وAndrée Breton.
وصرّح المخرج المغربي الشّاب محمد الودغيري الذي أخرج فيلمين قصيرين، في حديث إلى "جيل" أنّ الفيلم القصير بالنسبة له هو نوع سينمائي قائم بذاته، ومرتبط بالقصّة التي نحن بصدد حكايتها للمشاهد، بل يعتبره مساحة للإبداع أكثر، ولتجريب تقنيات يصعب اتّخاذ القرار بتجريبها في الفيلم الطويل.
أفلام مهرجانات فقط؟
هل تُنجز الأفلام القصيرة لعرضها في مهرجانات السّينما فقط؟ سواء المتخصّصة بشكل حصري في الأفلام القصيرة، مثل مهرجان Clermont-Ferrand الفرنسي، و"الفيلم القصير المتوسطي" في المغرب، أو في فئة الفيلم القصير في كلّ المهرجانات السّينمائية العالمية، التي يورد معظمها هذه الفئة ضمن مسابقته الرّسمية؟ هذا السؤال يطرح نفسه بحدة على صناع هذا النّوع السينمائي.
من بين الأفلام القصيرة التي اشتهرت عربيًا، ولقيت نجاحًا عالميًا على مستوى المهرجانات، الفيلم اللبناني "موج 98" للمخرج إيلي ظاهر الحائز على السّعفة الذهبية لفئة الأفلام القصيرة في مهرجان كان السينمائي، دورة 2015. والذي اعتمد تقنية التّحريك أو الرّسوم المتحرّكة داخل الفيلم، وهي تقنية رائجة في الأفلام القصيرة، فقدّم ظاهر بطله "عمر" في صورة كرتون، لكن المدينة حقيقية "بيروت"، والشوارع أيضًا.
عمر يشعر بلاجدوى الحياة في إيقاع رتيب، يتشابه فيه الجميع في نمط العيش، فيشعر بالضّياع والغربة في مدينته، وبيته، ويقول "لا أريد أن أكون مثلهم". ثم يخرج إلى المدينة، باحثًا عن شيء يكسر الرتّابة. ويدخل عالم أحلام اليقظة، حيث يحلّ بشكل مفاجئ كائن فولاذي مزيج من فيل و"غريندايزر"، يأخذ عمر إلى عالم بديل.
في تركيبة سوريالية ورومانسية، يقدم ظاهر رؤيته لتفكير هذه الجيل من الشّباب في العالم، جيل ضائع بين أحلام الطفولة وخيبات النّضج الوشيك. بين الإيقاع العالي الذي يريدون أن يعيشوا فيه، وقوانين الحياة كما هي منذ الأزل، والتي سنّها الذين قبلنا والذين قبلهم.
ويختزل الفيلم القصير في تصريح النّاقد السينمائي الجزائري عبد الكريم قادري لـ "جيل"، معنى المعنى ويؤثّثه، ويُولّد قيمته الجمالية من خلال الاقتصاد الزمكاني، مُفككًا العديد من الشفرات التواصلية التي تعجز عنها الألوان السينمائية الأخرى، حيث يتم اللعب على وتر تكثيف الصورة واختزالها، وشحنها "استيتيقيًا" كي تُسقط المُتلقى/ المُشاهد في الدّهشة، عن طريق خيوط معنوية، تُديرها متتالية حركية، مُشبعة إيقاعيًا، بفكرة إنسانية أو موقف ما.
وبالرّغم من أنّ الأفلام القصيرة لم تفلح في إيجاد سوق تجارية، لكن في عصر المعلوميات، والتكنولوجيا الفائقة السّرعة، هناك حلّ للجميع. فقنوات يوتيوب تتيح للجميع فرصة مشاهدة الفيلم القصير، والاستفادة من ميزاته، خاصة عامل الزّمن. وفي عملية بحث بسيطة يمكن أن تجد في يوتيوب آلاف الأفلام القصيرة من كل دول العالم، وخاصة الفائزة بجوائز كبرى. مثل فيلم"Room 8" للمخرج James W Griffiths الفائز بجائز بافتا، والذي شوهد أكثر من 900000 مرة.
ونجد أيضًا أفلامًا لقيت رواجًا كبيرًا تجاوز الأفلام الروائية الطويلة، مثل فيلم black hole الذي شوهد أكثر من 20 مليون مرة، والذي يتحدّث عن فكرة بسيطة وغير مكلّفة، لكن عميقة في مدلولها ومدهشة في عبقريتها.