الأغنية العاطفية صوفياً: القلب يعشق كُلّ جميل

10 يوليو 2018
سورية تشابكت فيها الأغنيتان الصوفية والعاطفية (الأناضول)
+ الخط -
عندما ننظر إلى بداية الموسيقى في تاريخ مصر الحديث، ومع نهاية القرن التاسع عشر، ظهر عدد كبير من منشدي الموشحات الدينية، مثل الشيخ إسماعيل سكر، والشيخ أبو العلا محمد، والشيخ إبراهيم الفران، والشيخ علي محمود، وحتى بعد تلك الفترة، ومع بداية القرن العشرين، نجد الشيخ زكريا أحمد، ووالد أم كلثوم، ورياض السنباطي، ومحمد القصبجي، كلهم كانوا يغنون من الابتهالات والمدائح الدينية في الموالد والحفلات الخاصة. إذاً، الأغنية الدينية كانت أحد أسس الغناء والألحان. ومع قدمها، شكلت جزءاً مهماً من الفلكلور الشعبي.

عندما نستمع إلى "أضاء النور" لـمحمد عبد الوهاب، يمكننا فهم العلاقة الوطيدة بين الأغنية الدينية والأغنية العاطفية. نجد أن عبد الوهاب بنى لحن مضناك على أثر من الأغنية الدينية "الحمد لرب مقتدر"، وسنجد أيضاً على اللحن نفسه القصيدة الأصلية التي كتب شوقي معارضة عليها. سنجد في سورية أغنية "يا ليل الصب" بشكل ديني. لم يقف عبد الوهاب عند العلاقة بين الأغنية الدينية والعاطفية، ولكن اقتبس من قراءة القرآن في بداية أغنية "دعاء الشرق".
من جهتها، غنت أم كلثوم أغاني كثيرة دينية وفي مناسبات كثيرة، وكان السنباطي هو الرفيق الأهم في تقديم ألحانها، مثل قصيدتي أحمد شوقي "ولد الهدى" و"نهج البردة"، وبيرم التونسي في "برضاك يا خالقي"، وقصائد رابعة العدوية، و"حديث الروح"، و"الثلاثية المقدسة" و"القلب يعشق كل جميل".


لكن الأمر أبعد من ذلك. ففي بدايات أم كلثوم، غنت عدة قصائد من ألحان الشيخ أبو العلا محمد، مثل "كم بعثنا مع النسيم سلاماً" التي كتبها إبراهيم حسني ميرزا، و"لي لذة في ذلتي وخضوعي" من شعر سعد الله الدجاجي. كانت هذه القصائد تفهم على محمل عاطفي وصوفي في الوقت نفسه، حتى إننا نجد المنشد الحلبي حسن الحفار، يغني قصيدة "كم بعثنا مع النسيم سلاماً".

كان أول لحن قدمه السنباطي لأم كلثوم، لحن "على بلد المحبوب"، ورفضته أم كلثوم في بادئ الأمر، وغناه بدلاً منها عبده السروجي في فيلم أم كلثوم، "وداد". لكن أعجبت به أم كلثوم بعد مشاهدة الفيلم، وطلبت أن تغنيه وتسجله على أسطوانة. يحكي السنباطي أنها كانت المرة الوحيدة التي تخطئ أم كلثوم في تقدير لحن يقدم لها، هو اللحن المبني على التراث، حتى وإن لم يكن بشكل مباشر، لكن واضح فيه تأثر السنباطي بطفولته وعمله مع والده في الأفراح والموالد. نجد أن اللحن كتب عليه كلمات دينية، وأصبح يغني في مديح النبي وزيارته، "على بلد المحبوب وديني.. على حرم الرسول خدوني"، نسمع المنشد السوري نور الدين خورشيد يؤديه، ونجد في مصر أيضاً تسجيلاً للشيخ أحمد القاضي.

منذ عدة سنوات، غنى مدحت صالح في أحد البرامج "روحوا له المدينة" على نفس لحن "قولوا الحقيقة"، ولكنها بكلمات مديح للنبي وزيارة بيته. ثم ظهر تسجيل لعبد الحليم حافظ في أحد البرامج، يقول إنه سمع لحن أغنية "قولوا الحقيقة" كمديح نبوي في أحد الموالد، موضحاً أنهم أخذوا اللحن وتم تغيير الكلمات، رغم أني أعتقد أن لحن كمال الطويل هو الذي بني على المديح، لكن هذا يوضح مدى تشابك العلاقة بين الأغنية العاطفية والأغنية الصوفية، وكيف يتم بناء الأغاني على الأغاني، وكيف ينصهر التراث مع المعاصر لينتج شيئاً جديداً.

كانت سورية أحد أهم الأماكن التي تشابكت فيها الأغنية الصوفية والعاطفية، من القدود الحلبية والموشحات، مثل أمين حسنين، أمين شرفاوي، توفيق المنجد، حسن أديب، وصباح فخري في بداياته وصبري مدلل وحسن الحفار ورسلان الصباغ وحمزة شكور؛ فكانت الموشحات والقدود تغنى بشكل عاطفي وصوفي في الوقت نفسه، مع تغير الكلمات، سنجد أغنية "هيمتني" التي غناها صباح فخري وغيره من قبله ومن بعده، مثل الشيخ إبراهيم الفران من مصر، وفقير المداحين الشيخ عيد جاد الديروطي، وكذلك غناها الشيخ إمام في جلسة.


لم تكن "هيمتني" فقط، فـ "على العقيق اجتمعنا" اشتهرت بصوت المطربين، وهي من الفلكلور الحلبي. وعن الالتباس بين الأصل والنسخ، نجد المنشد السوري، المعتصم بالله العسلي، يوضح للناس أنها في الأصل أنشودة دينية، ولكنها اشتهرت على أساس أنها أغنية عاطفية. يوضح هذا أن العلاقة بين الأغنيتين العاطفية والصوفية علاقة متشابكة ومتشابهة؛ فالحب في العلاقة العاطفية، يحاول أن يصل إلى مراتب صوفية كي يكون حباً صافياً، وكذلك الحب في العلاقة الصوفية مع الله.

كان للموشحات أيضاً نصيب كبير من هذه العلاقة، إما بصناعة موشحات دينية من الأساس، أو البناء على موشحات أندلسية قديمة، فنجد على سبيل المثل أغنية "إن في الجنة نهراً من لبن" تغنيها فرقة الحضرة وغناها آخرون قبلهم بكثير، وهي مبنية على الموشح المشهور "بالذي أسكر"، أو "لما بدا يتثنى"، وقد غناها حسن الحفار وغيره، ويتضح فيه البناء التركي فيه، لكنه تعامل معاملة الموشح الصوفي.


يمكننا فهم العلاقة أكثر من حديث شفيق شبيب، رئيس قسم الموسيقى في الإذاعة السورية قديماً، حيث قال: "أتى على الموسيقى حين من الدهر تردت فيه إلى أقصى حدود التردي والانحطاط بعد أن زالت سيادتهم على أوطانهم وصاروا محكومين بعد أن كانوا حاكمين، وخلال هذه الفترة التاريخية انبرينا، نحن الشيوخ؛ شيوخ المذاهب الصوفية للحفاظ على الألحان العربية فحفظناها كما حافظ عليها أسلافنا، واستعنا بها كما استعانوا بها في زواياهم، وصاروا يضعون على غرارها روائع التسابيح الإلهية والمدائح النبوية، إلى أن أخذ العرب جانباً من حرياتهم، فردوا إليهم الأمانة التي حافظوا وحفظوا وأورثوا وكانوا من الصادقين".

المساهمون