الأغنية كتفٌ صغير وهشّ يصلح لأن ترمي برأسك عليه مستجيراً به من واقعك. لكن ماذا يفعل كتف صغير في بلد تهشّم إلى درجة ثموديّة تقريباً؟ أي طاقة نغميّة تلك التي يمكنها أن تسند إنساناً دُمّر منزله أو قتلت عائلته أو هجّرت؟
في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لم تتح جهات الثقافة والفن والسلطات في سورية فرصة لائقة لقيام مدّ موسيقي وغنائي ينافس أقرانه في مصر ولبنان والعراق وحتى السعودية.
فإذا وضعنا بعض الاستثناءات القليلة جانباً، وعلى رأسها الفنان الحلبي صباح فخري، فإن تلك الفترة شهدت دعماً حكومياً ـ إعلامياً على الأقل ـ لموجة ما يُعرف بـ"أغاني ما بين شوطي مباريات كرة القدم"، التي تزعّمها عدد من مطربي تلك المرحلة، وعلى رأسهم عصمت رشيد وسمير سمرة وعبد الرزاق محمد ومروان حسام الدين؛ ما دعا معظم شرائح السوريين إلى التعاطي مع الفن اللبناني من بوابة السيدة فيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين وزكي ناصيف وزياد الرحباني وماجدة الرومي ومارسيل خليفة، والفن المصري متمثلاً بصوت أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ونجاة ووردة.. إلخ.
كما كان قسم كبير من السوريين يلوذون بالغناء العراقي وبأصوات أعلام هذا الفن مثل ناظم الغزالي وياس خضر وفؤاد سالم وسعدون الجابر وحميد منصور وغيرهم كثر.
اعتاد الإنسان السوري منذ زمن طويل أن يلقي رأسه على كتفٍ موسيقي آخر، وليس كتفاً محلياً بحتاً. ومثلما كان السوريون يسخرون من المعلّق الرياضي وجيه شويكي ولا يحبونه، كانوا أيضاً يفعلون ذلك حيال وجوه غنائية مكرسة لهم؛ لكنهم كانوا يدركون أن نموذج شويكي هو سقف مخصصاتهم مهما سخروا.
في عهد الوريث بشار الأسد، تغيّرت القواعد قليلاً واستطاع نمط غنائي محدد، وهو النمط الجبلي الساحلي، أن يجتاح البلاد، حيث وضعت تحت تصرفه كل وسائل الإعلام، في وقت أهمل فيه فن عريق عرفت فيه مدينة حلب منذ القدم، ووصل حاله من السوء إلى درجة بات فيه الفنان الحلبي مضطراً إلى وضع الموشحات والقدود والأدوار على الرف؛ ليحفظ أغنيات علي الديك ووفيق حبيب وغيرهما، أو أن يقعد في بيته من دون عمل.
في المقابل، لم يلعب خريجو "المعهد العالي للموسيقى" في دمشق دوراً مؤثراً في الحياة الفنية السورية؛ إذ غرقوا أو أُغرقوا في أزمة التمويل وتُركوا من دون دعم، اللّهُمّ إلا ما أفسح لهم من مسارح قليلة ليقدّموا عليها بعض الأعمال التي بقيت عصيّة على الانتشار.
اليوم لم يقتصر تدمير وريث القصر الجمهوري للحياة الفنية فقط، بل طال الحياة السورية كلها، حتى عندما قرر أن يكرّم الموسيقى بأن وضع صورة دار الأوبرا والنوتة الموسيقية الأوغاريتية الأثرية على قطعة نقدية من فئة خمسمئة ليرة سورية؛ سرعان ما اكتشف السوريون أن هذه القطعة النقدية بلا رصيد، وتعتبر بشكل أو بآخر ضرباً من ضروب التزوير!