الأغنية التونسية: ليس مجرّد استدعاء للتراث

01 ابريل 2018
من كليب بوعكازين (يوتيوب)
+ الخط -


يقول الكاتب التونسي محمود المسعدي في مقدمة كتابه "حدث أبو هريرة قال": "ليس في نظري أطرف من جدّة القديم". رغم أن الكاتب ينتمي إلى عالم الأدب والرواية، إلا أن صدى مقولته هذه ينسحب على عالم الفن والموسيقى. ذلك أن الأغنية التونسية صارت تبحث اليوم عن جِدّتها في تراثها الغنائي والشعبي الذي تسعى إلى استدعائه وقولبته في سياق موسيقي يتوافق مع الذائقة الراهنة للجمهور، وهو استرجاع لا يقتصر على إعادة أغاني الماضي وحنينياته الطربية، بل يتعداه ليعيد تشكيل القيم والرسائل الإنسانية المحملة في أغانٍ كانت تعالج ظواهر ومشاكل وانشغالات اجتماعية تنتمي لتلك الظرفيات الزمنية. 

زخر عام 2017 بإنتاجات عديدة لأغان تراثية وشعبية، حظي معظمها بالاهتمام والمتابعة من قبل الجمهور ووسائل الإعلام؛ ما حض فنانين كثيرين على الاستثمار في التراث الغنائي وسحبه إلى مجرى تيار الأغنية الحديثة من حيث الإيقاع والأداء والتوزيع الموسيقي.

بالرجوع على طرق إعادة تأدية هذه الأغاني، نلاحظ أنه بالإضافة إلى اشتغالها على الجانب المسموع؛ فإن الاهتمام بالجانب التصويري وطرق الإخراج لم يكن أقل أهمية، وهو تأكيد أن الأغنية الحديثة تُشاهد حتى قبل أن تُسمع؛ نظرًا للأثر الذي تحدثه الصورة في ذهنية المتلقّي ونفسيته.

ومهم أن نشير هنا كذلك إلى أنه بمشاهدة إعادة إنتاج أغانٍ تراثية مثل "حمّة" و"يمّا لسمر دوني" (أدّتها أسماء عثماني) نتبيّن أن هذه الأعمال الإحيائية تتعدى عملية الاستذكار وإعادة الإلقاء، لتكون بمثابة وسيلة لإعادة إنتاج المعنى وتقريب السياق. ففي أغنية "يما لسمر دوني" مثلًا، علاوة على كلمات الأغنية الأصلية التي تنبذ العنصرية على أساس اللون وتوثّق لغزل امرأة بحبيبها الأسمر رغم نظرة المجتمع الجائرة بحق السُمر، فإن الفيديو كليب بُني على تعزيز صورة التسامح والتلاقي الإنساني من خلال تشريك وجوه فنية وإعلامية مختلفة الانتماءات، وإلباسها الزي التقليدي التونسي.

أما أغنية "حمّة" (أدّتها أسماء بن أحمد) التي تستهل كلماتها بـ"عايروني بيك أحمّة"، أي عيّروني بحبك يا حمّة (محمد)، تأتي لتذكّر بأن الحب أعمى لا يدين بأي دين ولا ينضوي تحت أية قاعدة؛ فكل ما يراه العاذلون سيئًا في حمّة تراه حبيبته مصدرًا للجمال ومنبعًا للحب. لتشدّ هذه الأغنية القادمة من ظرفية زمنية عانت من الوصم الاجتماعي على أساس اللون والطبقة الاجتماعية والسلوكات الفردية، مستمعيها إلى إعادة النظر في القيمة الأصلية للحب الذي لا يعبأ إلا بتصالح الذوات.

هاتان الأغنيتان هما مثالان من أمثلة عديدة أخرى، نذكر منها أغنية "خديجة" ليسرى محنوش و"بوعكازين" لشمس الدين باشا، عن إحياء أغان من التراث التونسي وظفت لرأب الشرخ الحاصل بين الشكل والمحتوى في بنية الأغنية التونسية التي بدت منذ مدة وكأنها حبيسة لأغاني الضجة والإثارة.



هذا الاستثمار في التراث نجح في أن يشد إليه الانتباه عبر توفير استحقاقات الأغنية الحديثة من خلال إعادة التوزيع الموسيقي واستبدال المقامات، فرغم أن الكلمات تراثية، إلا أن اللحن خضع لإعادة الإنتاج داخل استوديوهات تتماشى مع التطور الذي مرّ به التلحين الغنائي بما في ذلك سرعة الإيقاع والآلات المستعملة؛ فعلى سبيل المثال تمّ في أغنية "بوعكازين" التقليل من عدد آلات البندير التي يتسم بها جوّ "الحضرة" ذات الطابع الديني والشعبي الذي كانت تؤدى فيها الأغنية.

المساهمون