الأسس الأسطوريّة لصنعاء وعدن

30 يونيو 2015
لوحة للفنان الأردني محمد الجالوس من مجموعة ذاكرة.
+ الخط -
منذ الإعلان عن الوحدة (بين الشمال والجنوب)، في 22 مايو/ أيار عام 1990، أصبحت صنعاء عاصمة اليمن، فيما أصبحت عدن عاصمتها الاقتصادية. قادت وحدة البلاد غالبية سياسيي الجنوب للاستقرار في صنعاء، وهم يتقاسمون اليوم السلطة مع خصومهم الأيديولوجيين القدامى للشمال. توسّعت خارج أسوار صنعاء، عاصمة المرتفعات العليا الزيدية، التي تنازع حولها في التاريخ الحديث الأئمة والولاة العثمانيون (1872- 1918)، ثم الملكيون والجمهوريون ( 1962- 1970)، لاستقبال جميع طوائف البلد. وقد شكّلت بذلك مجتمعًا هجينًا ومركّبًا، لكنه ينظر في قسم كبير منه، صوب أصوله التعددية وولاءاته العشائرية. تضافر النزوح من الريف مع جاذبية النخب للمساهمة وبشكل حاسم في إنعاش النمو الحضري. ومع ذلك، فإن هذا الطابع الفسيفسائي للمدينة، الذي لم تتمخض عنه بعد ثقافة حضرية حقيقية، يواجه تحدي محيط قبلي يمكنه فرض قواعده في قلب المدينة ذاتها بل وفي قلب الدولة. ترسّخت الوحدة بدءًا من المرتفعات الخاضعة للنظام القبلي إلى ضفاف المحيط الهندي، وأصبح الانتقال والتنقل ممكنين من جديد. لكن، وفي الوقت نفسه، ساد حيف من نوع جديد. كان من المفروض أن تعرف مدينة عدن التي مزّقتها الحرب الدامية لعام 1986، بعضًا من الهدوء بعد أفول نظام استبدادي تحوّل فجأة إلى الديمقراطية. لكن ذلك لم يتحقق: لم تصبح عدن مثل صنعاء مسرحًا لحسم الصراعات بين القبائل، وإنما تمّ خنقها من طريق تركيز ثروات الدولة، الأمر الذي عرّضها لجشع سماسرة الليبرالية. لم يعد البحر، كما كان عليه الحال أيام الاحتلال البريطاني (1836- 1967)، الرئة الاقتصادية للمدينة، بل الطريق الذي تربطه بالعاصمة وبالميناء الحقيقي للبلد: الحديدة، الذي يفرّغ فيه القسم الأكبر من المنتوجات الاستهلاكية. عدن التي كانت سابقًا منارة للثورة الماركسية في العالم العربي، هي اليوم منزوية داخل خليجها، خاضعة لصنعاء ومهمّشة على الصعيد الاقتصادي، بالرغم من وضعها الافتراضي كالمدينة الثانية في البلد.

اقرأ أيضاً: ضائعون وسُجناء في مدنِ الخَيال

توضح لنا قراءة حكايات تأسيس صنعاء وعدن، الاختلافات البارزة في البناء الأسطوري لكل منهما. وعند مقارنة الوضع الخاص للأشخاص الذين يؤدوّن، في التقسيم التخييلي لأصولها، دورًا مهمًا، يتضح أن صنعاء على عكس عدن، تحتل مكانةً رفيعة. فقد أضفت شخصيات أسطورية، مثل سام وهود وأسعد الكامل، على هذه المدينة هالتها الطيبة، بينما دمغ كل من شداد وقابيل، عدن بخاتمٍ سيئ الطالع. وهذا التعارض هو بمعنى ما، امتداد للصراع الذي كان بين النبي هود وشعب عاد الذي رفض رسالته، وتجسّد كبرياؤه في شخصية شدّاد، ورغبته في خلق جنّة على الأرض. لكن إن اخترنا عدم المبالغة في أهمية شخصية هود في تأسيس صنعاء، محترمين بذلك قلّة المعلومات، فمن السهل، بالعكس، العثور على زوجين من المتناقضات. يعدّ شدّاد فعلًا سليل نوح، وبسبب رفضه الوحي الربّاني الذي نقله هود، فإنه يعارض سام كمثل معارضة قابيل لهابيل. يمكن إحداث مطابقة بين دور "ذو القرنين" في عدن، ودور أسعد الكامل في صنعاء، إن استندنا على أشعار الملحمة القحطانية التي تصوّر هذه المآثر. تحتل صنعاء في هذه النصوص، مكانًا مهمًا، وتذكّر باعتبارها المكان الذي تتجمّع فيه جيوش أسعد الكامل. تبدو المدينة وكأنها نقطة انطلاق غزو العالم. فمآثر هذه الشخصية، وبالأخص عبورها بحر الظلمات، مماثلة لمآثر ذي القرنين في "رواية الإسكندر".
تجمع الأصول الأسطورية لصنعاء وعدن، كوكبةً من الشخصيات القرآنية التي تثبت الأهمية الرمزية لهاتين المدينتين في المتخيّل العربي. وتكشفان فعلًا، تجذّرًا يمنيًا للتاريخ الإسلامي المرتبط بصوغ "ملحمة قحطانية" قادرة على إثبات الأسبقية النبوية لعرب الجنوب. إذ غالبًا ما يقدّم أسعد الكامل، بين شخصيات عديدة، كـ"توحيدي اعتنق المسيحية"، وكان أوّل من غطّى الكعبة بخمار. كما وصل الأمر بهذه الملحمة، أن جعلت صنعاء مهدًا للعرب، حال اعتمدنا على نصّ لابن ديبع. وضمن هذا التصور الأسطوري، فإن عدن تجسد كلّ الإبهام العالق بالعصر الجاهلي.
ترجمة: المعطي قبال
المساهمون