يَومُ السّبتِ كانَ مُقدسًا،
كنتُ أزورُ جدّتي "أم محمد" لأرتشفَ القهوةَ معها، قهوة "الفاهوم" الشقراء هي المفضلة عندها على الصّينية الفضية المستديرة مزخرفة الجوانب تضعها، لها فنجانها ولكلّ فنجان قصة.
بأبهى جمالٍ كما اليَاسَمِين، وفي عَينها ذكرياتُ سِنين، تنتظرني بردائها البيتيّ الفضفاض المنقش بالورود، وشعرها الأبيض الحريري المنسدل من منديلها الأبيض، والذهب الأصفر الناصع يُزين زنودها المحملة بالحنان والحزن والأمل، سوار الأفعى ومبرومة ومحبس منقوشٌ عليه اسمها واسم خطيبها الأول، ليس جدي إنما ابن عمّها الّذي خرج للمقاومة مع المجاهدين في الـ 48 ولم يعد، استشهد على الرغم من أنه وعدها بالزواج فأبقت الخاتم بيدها وفاءً وتقديسًا للشهادة.
جدي لم يعارض ذلك، وفاءً لمعنى الشهادة أيضًا،
- "كاين تقدمي سيدي"
كانت تنتظرني دائمًا،
تعاتبني دائمًا أنني أهملها، على الرغم من أني آتي إليها كل أسبوعٍ، تحبني لأني كنتُ أصغي إليها، كنتُ أشعر بالطفل الذي بداخلها وهي تتحدث عن لعبتها في الطفولة وعن ذكريات لها مع أولاد عمومها وإخوتها وعن عصبية والدتها وحنان والدها والمدرسة التي حُرمت منها، هي روح طفل بهيئة عجوز.
- "يسعده أبو لحية مخزوقة"
- "طلع من عيلة المطبلين مزمر"
بهذه العبارات كانت تبدأ حديثها معي كل زيارة، كأنها تريد أن تغريني بمديحها لي لأنصت لحديثها، فالجميع ملَّ من كلامها المتكرر، أنا حفظته ولم أمل منه، شكل وعيًا عندي لا تستطيع تشيكله لا نخب المثقفين ولا مكتبات فلسطين.
اقرأ أيضًا: إبراهيم مهوي، أنا طالب يتتلمذ على يد الأدب
شريط الذكريات عندها انقطع هناك، يوم التهجير والتطهير، يوم تحول الاستقرار والنعيم إلى بكاء وعويل، يوم تبدلت ساحة المنزل و"الحاكورة " إلى غبارٍ وأنين، لا شيء، كلُّ شيء اندثر، وما بقي إلا الحنين طوته المنايا مع الغابرين، بدأ اليوم في الخبيز وانتهى بأجساد تلهث تركضُ خلفها فوهاتُ بنادق الموت لحنها أزيز، تاركين خلفهم الذكريات ودخان الطابون وعبق الأرض، نهيق الحمير وصياح الديوك ونقنقة الدجاج، فحتى الهواء هناك كان على قلبها عزيز.
حاولتُ جاهدًا المواظبة على زيارة جدتي، فأكسجينها "الفضفضة " وأكسجيني "الإصغاء"، تتغير الأماكن والأوقات، تتغير الظروف والتحديات وهي لا تتحدث إلا عن والدها وخالها وعمها، قريتها والنكبة، التهجير واللجوء، عالقة هناك تعرج إلى أحاديث أخرى لكنها سرعان ما تُعيد الرجوع إلى حصنها، هناك هي متمرسة، تتذكر كل التفاصيل والتواريخ، من قال وماذا قيل ومن فعل وماذا فعل، هناك هي الأقوى لا يستطيع أحد مقاطعتها أو محاججتها أو دحض كلامها، فهذا ملعبها على الجميع السكوت والإنصات، وهي تعشق ذلك.
"أنا أهلي ملاكين بحيفا وأبوي ناظر محطة"
تعتز بوالدها الذي لم تشبع من حنانه، فقد تزوج عدة نساء، لها إخوة من والدها ومن والدتها التي تزوجت بعد وفاة والد جدتي، أخ في الأردن وأخت في مِصر وإخوة في لبنان، مأساة بشرية خلفها الاستعمار والخونة وأعراف مجتمع سيطر فيه المختار، تتذكر حتى الحلوى التي اشتراها لها عمها وهي في الخامسة من عمرها، تتذكر "الثلاث درجات"، عندما مد عمها له يده المملوءة بالحلوى، أخذت حبتين، قبلة طبعتها على يدها وأرسلتها له وهو ذاهبٌ لعمله.
اعتاد أعمامي على إغاظة جدتي والادعاء أن والدها لم يكن "ناظر محطة"، إنما هو ليس سوى عامل بسيط هناك، كانت تغضب، تحتقن وتطرد حتى أبناءها حين يتجرأ أحدٌ على التّشكيكِ في الماضي، ماضيها.
بكل فخرٍ واعتزاز، بهامة كلها قدر وحزنٌ ، تصرخُ بإيجاز:
"أنا صبرية نجيب سويلم على سن ورمح"
اقرأ أيضًا: منير العكش، الفلسطينيون ليسوا هنودًا حمرًا
والدها، توفاهُ اللهُ وهي في الخامسةِ من عمرها، لكنّها مصرة أنه كان رجلًا مهمًا وذا مقام، وكانت تستشهد بجنازته، فهي لا تذكر إلا بضعًا من الحنان ولحظات الوفاة.
تذكر حين حملوا نعشهُ إلى مقبرة "النّبي صالح" في عكا وعلى رأس التابوت انتصب "الطربوش" وهذه كانت دلالة على أن الميت ذو شأن، حتى في الموت هناك تفرقة.
أعمامي ادّعوا أنه لا يوجد هناكَ قبر، إنما هي كومة أحجار تكسوها الأشواك، لكنها كانت مصممة على ذلكَ، تصميمها غلب اعتقاد الجميع فكانت تجبر كلّ أسبوع واحدًا من أعمامي لأخذها إلى عكا لتقرأ لوالدها "الفاتحة".
هل كانت مقتنعة بذلك؟!
هل حقًا هذا قبر والدها؟!
أم تريد أن تقنع ذاتها لتشفي غليلها؟
غليل زرعه الاحتلال فخلق السدود بين الأخ وأخيه، بين الفتاة وأهلها، جاعلًا مساحة لنسج الخيال والذكريات فقط للتشبث والتمسك.
*******************
في الرابع عشرة سنة من عمرها تزوجت جدّي "عبد القادر"، سكنا في قرية "قومية" قضاء بيسان، كان لهما، حتى حدوث النكبة، ولدان محمد ومصطفى، لم تحدثني عن هذه الفترة، كانت تعرج إلى النكبة واللجوء من طفولتها مباشرة، هي فقط تتذكر كيف تمت خطوبتها. جَدُّ جدي رآها ترعى الأغنام، فبياضها وجسدها الممتلئ، كانا كافيين لتأهيلها للزواج من جدي، ليلة الدخلة هي اللقاء الأول لهما.
سرعان ما تترك ذكريات الفرح وتعود إلى الحقبة الخالدة في ذكراها من جديد، تتناسى عمدًا كل ربيع وتعاود الرجوع إلى كل خريف، بين الابتسامة والحزن برهة لا تحسن الاستمتاع بها أو أنها لا تريد، لا أدري.
أو أنها تريد لكن ليس هذا مبتغاها. لا أعلم إن كانَ لها مبتغى، أو أنّ عصف الذكريات وآثار النكبة كانت تدفعها إلى تفريغ كل ما عندها. قد تكون فطرة الحزين والمقموع، لا أدري.
تنهيدة عالية من دون صوت
رأيتها لم أسمعها
" ااااخ يا ستي "....
بعد التهديد والوعيد، القصف والخوف واستشهاد الأقرباء المجاهدين، فرّوا من البيت، جدي وجدتي وابناهما، عمتي وبعض الأقارب، فقد همّوا إلى دبورية لكن سرعان ما انتقلوا إلى النّاصرة، هي المدينة الآمنة آنذاك.
هنا كانت تغضب جدتي وتتغير ملامحها وتحتقن،
"عاملونا صِنف (ب) يا ستي، هني أهل البلد وإحنا اللاجئين قال"
قرروا السكن في دير للراهبات، بعدها انتقلوا للسوق القديمة. سكنوا بعقد لعائلة "الديك" عند البابور القديم، مقابل المقبرة القديمة، جيرانها الموتى، أطلالها شواهد القبور تطرب آذانها كل يومٍ بهمسات "بسم الله وبالله وصلى الله على محمد وآل محمد، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات".
اقرأ أيضًا: سليم تماري، سير المغمورين تكشف النسيج الاجتماعي الفلسطيني
كانت جدتي بمعايير اليوم طفلة مرت، حتى الآن، بنكبة وتهجير، لجوء، ولادة طفلين وحبيب شهيد، لكنها صامدة كالكيناء جذورها متينة، شامخة كزيتونة الأرض، شرسة تدافع عن حقها كأشواك الصبار، هكذا كانت تصفُ نفسها، فبحر الخيال عندها عالق هناك بباحة المنزل في "قومية".
كان جدي يخرج للعمل في حيفا، لم أعِ جدي، فقد توفاه الله في العام نفسه الذي ولدتُ فيه، لكن جدتي لم تنسه للحظةٍ واحدة خلال حديثها، كانت تبكيه وتشفق عليه، كان يعمل بمحطة غسيل وتشحيم بالكرمل، لكنه بالخفي كان يعمل، أيضًا، بحدائق الخواجات والأجرة كانت "بعض الحلويات والمأكولات"!
"نعم ستي، كان يشتغل فوق شغله ويستغلوه بس عشان يروح عالبيت شوية حلويات وقروش لولاده".
حدثتني والدتي إنه كان يخصها بحبة تفاح كلّ مرة يعود بها من حيفا، يُخرجها من جيبه ويقول لها وهي حامل بي: "هاي عشان عمار يطلع ذكي".
وظيفتها تربيةُ الأولاد. خبرتها في الطهو تقتصر على البرغل والعدس، القمح والعلت والسبانخ، لا تعرف التعامل مع الباذنجان والمحاشي والدجاج، كانت تراقب جاراتها وهنّ يحضّرن الطعام وتتعلم، أذكر مذاق طعامها جيدًا، كانت مبدعة، عند سؤالها عن معلمها كانت تقول:
"علموني المسيحيات كلشي"،
"المسيحيات شاطرات يا ستي، أعطِ الوحدة منهن حبتين بندورة وخيارة بتعملك أربعة أنواع سلطة".
كانت تفتخر بأولادها، لكل ولد قصة كيف أنجبته وأين ولماذا سمّته وعن أطباعه، كانت تجبرهم جميعًا هم وأزواجهم على المواظبة لزيارتها والاعتناء بها، حتى أذكر في أحد الأيام أنها أجبرتهم جميعًا إلى حضور عملية جراحية لها في مشفى "رمبام"، وعندما صحت من التخدير وفتحت عينيها، التفتَت حولها وقالت غاضبة:
"وين سمير؟" أحد أبنائها السبعة.
هي ليست أنانية، وليست متسلطة كما كان يعتقد الجميع. كنت أرى فيها طفلةً حرمتها النكبة من الأخ والأب ومن العائلة الحاضنة، فأنجبت سبعة أولاد ليكونوا هم هذه العائلة.
كنت أفهمها، لامستُ الطفل الذي يسكنها، فحبلُ الذكريات انقطع هناك في الطفولة مرورًا بالنكبة لم ولن يشيخَ.
اقرأ أيضًا: سعاد العامري، "رواق" الأولوية لترميم القرية الفلسطينية
تعتز أن الشرطة لم تدخل بيتها يومًا، أنها ربت أولادها على الأخلاق واحترام الغير والعطاء وتقول: "دار أبو قنديل حناين ع بعض كلهن شلعوطين ونص"!
حلمها كان أن تشهد تخرُّجي من " الدكتوراه " وكانت تتوعد أنها ستقوم وتلبسني سلسلة من الذهب أمام الجميع.
حفيدها المفضل؟، لا أعلم. هكذا كنت أشعر. في الحقيقة كلهم شعروا كذلك. ربما هذه عظمتها وحنكتها، لا أدري، لكن ذكراكِ خالدة أمّ محمد.
هذه بعض أحاديث جدتي رافقتُها حتى آخر يوم في حياتها، ذاكرتها بدأت تخونها في آخر أيامها، نسيَت أسماء أولادها وأحفادها أحيانًا، نسيت تفاصيل كثيرة، لكنها وفي قمة المرض وأوج حالات النسيان لم تنسَ تفاصيل النكبة والهجرة واللجوء، هو أرشيف مدموغ في الروح لا يمكن لمرض ولا لسقم ولا هرم أن يمحوَه. أسبوع قبل وفاتها حدثتني بالتاريخ والتفاصيل وكل ما مرت به تمامًا كما حدثتني به أوّل مرة وكأنها تريد أن تقول لي، هذا كنز وأمانة احتفظ به وحدث.
جدتي صبرية "أم محمد" لروحكِ السلام.
كنتُ أزورُ جدّتي "أم محمد" لأرتشفَ القهوةَ معها، قهوة "الفاهوم" الشقراء هي المفضلة عندها على الصّينية الفضية المستديرة مزخرفة الجوانب تضعها، لها فنجانها ولكلّ فنجان قصة.
بأبهى جمالٍ كما اليَاسَمِين، وفي عَينها ذكرياتُ سِنين، تنتظرني بردائها البيتيّ الفضفاض المنقش بالورود، وشعرها الأبيض الحريري المنسدل من منديلها الأبيض، والذهب الأصفر الناصع يُزين زنودها المحملة بالحنان والحزن والأمل، سوار الأفعى ومبرومة ومحبس منقوشٌ عليه اسمها واسم خطيبها الأول، ليس جدي إنما ابن عمّها الّذي خرج للمقاومة مع المجاهدين في الـ 48 ولم يعد، استشهد على الرغم من أنه وعدها بالزواج فأبقت الخاتم بيدها وفاءً وتقديسًا للشهادة.
جدي لم يعارض ذلك، وفاءً لمعنى الشهادة أيضًا،
- "كاين تقدمي سيدي"
كانت تنتظرني دائمًا،
تعاتبني دائمًا أنني أهملها، على الرغم من أني آتي إليها كل أسبوعٍ، تحبني لأني كنتُ أصغي إليها، كنتُ أشعر بالطفل الذي بداخلها وهي تتحدث عن لعبتها في الطفولة وعن ذكريات لها مع أولاد عمومها وإخوتها وعن عصبية والدتها وحنان والدها والمدرسة التي حُرمت منها، هي روح طفل بهيئة عجوز.
- "يسعده أبو لحية مخزوقة"
- "طلع من عيلة المطبلين مزمر"
بهذه العبارات كانت تبدأ حديثها معي كل زيارة، كأنها تريد أن تغريني بمديحها لي لأنصت لحديثها، فالجميع ملَّ من كلامها المتكرر، أنا حفظته ولم أمل منه، شكل وعيًا عندي لا تستطيع تشيكله لا نخب المثقفين ولا مكتبات فلسطين.
اقرأ أيضًا: إبراهيم مهوي، أنا طالب يتتلمذ على يد الأدب
شريط الذكريات عندها انقطع هناك، يوم التهجير والتطهير، يوم تحول الاستقرار والنعيم إلى بكاء وعويل، يوم تبدلت ساحة المنزل و"الحاكورة " إلى غبارٍ وأنين، لا شيء، كلُّ شيء اندثر، وما بقي إلا الحنين طوته المنايا مع الغابرين، بدأ اليوم في الخبيز وانتهى بأجساد تلهث تركضُ خلفها فوهاتُ بنادق الموت لحنها أزيز، تاركين خلفهم الذكريات ودخان الطابون وعبق الأرض، نهيق الحمير وصياح الديوك ونقنقة الدجاج، فحتى الهواء هناك كان على قلبها عزيز.
حاولتُ جاهدًا المواظبة على زيارة جدتي، فأكسجينها "الفضفضة " وأكسجيني "الإصغاء"، تتغير الأماكن والأوقات، تتغير الظروف والتحديات وهي لا تتحدث إلا عن والدها وخالها وعمها، قريتها والنكبة، التهجير واللجوء، عالقة هناك تعرج إلى أحاديث أخرى لكنها سرعان ما تُعيد الرجوع إلى حصنها، هناك هي متمرسة، تتذكر كل التفاصيل والتواريخ، من قال وماذا قيل ومن فعل وماذا فعل، هناك هي الأقوى لا يستطيع أحد مقاطعتها أو محاججتها أو دحض كلامها، فهذا ملعبها على الجميع السكوت والإنصات، وهي تعشق ذلك.
"أنا أهلي ملاكين بحيفا وأبوي ناظر محطة"
تعتز بوالدها الذي لم تشبع من حنانه، فقد تزوج عدة نساء، لها إخوة من والدها ومن والدتها التي تزوجت بعد وفاة والد جدتي، أخ في الأردن وأخت في مِصر وإخوة في لبنان، مأساة بشرية خلفها الاستعمار والخونة وأعراف مجتمع سيطر فيه المختار، تتذكر حتى الحلوى التي اشتراها لها عمها وهي في الخامسة من عمرها، تتذكر "الثلاث درجات"، عندما مد عمها له يده المملوءة بالحلوى، أخذت حبتين، قبلة طبعتها على يدها وأرسلتها له وهو ذاهبٌ لعمله.
اعتاد أعمامي على إغاظة جدتي والادعاء أن والدها لم يكن "ناظر محطة"، إنما هو ليس سوى عامل بسيط هناك، كانت تغضب، تحتقن وتطرد حتى أبناءها حين يتجرأ أحدٌ على التّشكيكِ في الماضي، ماضيها.
بكل فخرٍ واعتزاز، بهامة كلها قدر وحزنٌ ، تصرخُ بإيجاز:
"أنا صبرية نجيب سويلم على سن ورمح"
اقرأ أيضًا: منير العكش، الفلسطينيون ليسوا هنودًا حمرًا
والدها، توفاهُ اللهُ وهي في الخامسةِ من عمرها، لكنّها مصرة أنه كان رجلًا مهمًا وذا مقام، وكانت تستشهد بجنازته، فهي لا تذكر إلا بضعًا من الحنان ولحظات الوفاة.
تذكر حين حملوا نعشهُ إلى مقبرة "النّبي صالح" في عكا وعلى رأس التابوت انتصب "الطربوش" وهذه كانت دلالة على أن الميت ذو شأن، حتى في الموت هناك تفرقة.
أعمامي ادّعوا أنه لا يوجد هناكَ قبر، إنما هي كومة أحجار تكسوها الأشواك، لكنها كانت مصممة على ذلكَ، تصميمها غلب اعتقاد الجميع فكانت تجبر كلّ أسبوع واحدًا من أعمامي لأخذها إلى عكا لتقرأ لوالدها "الفاتحة".
هل كانت مقتنعة بذلك؟!
هل حقًا هذا قبر والدها؟!
أم تريد أن تقنع ذاتها لتشفي غليلها؟
غليل زرعه الاحتلال فخلق السدود بين الأخ وأخيه، بين الفتاة وأهلها، جاعلًا مساحة لنسج الخيال والذكريات فقط للتشبث والتمسك.
*******************
في الرابع عشرة سنة من عمرها تزوجت جدّي "عبد القادر"، سكنا في قرية "قومية" قضاء بيسان، كان لهما، حتى حدوث النكبة، ولدان محمد ومصطفى، لم تحدثني عن هذه الفترة، كانت تعرج إلى النكبة واللجوء من طفولتها مباشرة، هي فقط تتذكر كيف تمت خطوبتها. جَدُّ جدي رآها ترعى الأغنام، فبياضها وجسدها الممتلئ، كانا كافيين لتأهيلها للزواج من جدي، ليلة الدخلة هي اللقاء الأول لهما.
سرعان ما تترك ذكريات الفرح وتعود إلى الحقبة الخالدة في ذكراها من جديد، تتناسى عمدًا كل ربيع وتعاود الرجوع إلى كل خريف، بين الابتسامة والحزن برهة لا تحسن الاستمتاع بها أو أنها لا تريد، لا أدري.
أو أنها تريد لكن ليس هذا مبتغاها. لا أعلم إن كانَ لها مبتغى، أو أنّ عصف الذكريات وآثار النكبة كانت تدفعها إلى تفريغ كل ما عندها. قد تكون فطرة الحزين والمقموع، لا أدري.
تنهيدة عالية من دون صوت
رأيتها لم أسمعها
" ااااخ يا ستي "....
بعد التهديد والوعيد، القصف والخوف واستشهاد الأقرباء المجاهدين، فرّوا من البيت، جدي وجدتي وابناهما، عمتي وبعض الأقارب، فقد همّوا إلى دبورية لكن سرعان ما انتقلوا إلى النّاصرة، هي المدينة الآمنة آنذاك.
هنا كانت تغضب جدتي وتتغير ملامحها وتحتقن،
"عاملونا صِنف (ب) يا ستي، هني أهل البلد وإحنا اللاجئين قال"
قرروا السكن في دير للراهبات، بعدها انتقلوا للسوق القديمة. سكنوا بعقد لعائلة "الديك" عند البابور القديم، مقابل المقبرة القديمة، جيرانها الموتى، أطلالها شواهد القبور تطرب آذانها كل يومٍ بهمسات "بسم الله وبالله وصلى الله على محمد وآل محمد، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات".
اقرأ أيضًا: سليم تماري، سير المغمورين تكشف النسيج الاجتماعي الفلسطيني
كانت جدتي بمعايير اليوم طفلة مرت، حتى الآن، بنكبة وتهجير، لجوء، ولادة طفلين وحبيب شهيد، لكنها صامدة كالكيناء جذورها متينة، شامخة كزيتونة الأرض، شرسة تدافع عن حقها كأشواك الصبار، هكذا كانت تصفُ نفسها، فبحر الخيال عندها عالق هناك بباحة المنزل في "قومية".
كان جدي يخرج للعمل في حيفا، لم أعِ جدي، فقد توفاه الله في العام نفسه الذي ولدتُ فيه، لكن جدتي لم تنسه للحظةٍ واحدة خلال حديثها، كانت تبكيه وتشفق عليه، كان يعمل بمحطة غسيل وتشحيم بالكرمل، لكنه بالخفي كان يعمل، أيضًا، بحدائق الخواجات والأجرة كانت "بعض الحلويات والمأكولات"!
"نعم ستي، كان يشتغل فوق شغله ويستغلوه بس عشان يروح عالبيت شوية حلويات وقروش لولاده".
حدثتني والدتي إنه كان يخصها بحبة تفاح كلّ مرة يعود بها من حيفا، يُخرجها من جيبه ويقول لها وهي حامل بي: "هاي عشان عمار يطلع ذكي".
وظيفتها تربيةُ الأولاد. خبرتها في الطهو تقتصر على البرغل والعدس، القمح والعلت والسبانخ، لا تعرف التعامل مع الباذنجان والمحاشي والدجاج، كانت تراقب جاراتها وهنّ يحضّرن الطعام وتتعلم، أذكر مذاق طعامها جيدًا، كانت مبدعة، عند سؤالها عن معلمها كانت تقول:
"علموني المسيحيات كلشي"،
"المسيحيات شاطرات يا ستي، أعطِ الوحدة منهن حبتين بندورة وخيارة بتعملك أربعة أنواع سلطة".
كانت تفتخر بأولادها، لكل ولد قصة كيف أنجبته وأين ولماذا سمّته وعن أطباعه، كانت تجبرهم جميعًا هم وأزواجهم على المواظبة لزيارتها والاعتناء بها، حتى أذكر في أحد الأيام أنها أجبرتهم جميعًا إلى حضور عملية جراحية لها في مشفى "رمبام"، وعندما صحت من التخدير وفتحت عينيها، التفتَت حولها وقالت غاضبة:
"وين سمير؟" أحد أبنائها السبعة.
هي ليست أنانية، وليست متسلطة كما كان يعتقد الجميع. كنت أرى فيها طفلةً حرمتها النكبة من الأخ والأب ومن العائلة الحاضنة، فأنجبت سبعة أولاد ليكونوا هم هذه العائلة.
كنت أفهمها، لامستُ الطفل الذي يسكنها، فحبلُ الذكريات انقطع هناك في الطفولة مرورًا بالنكبة لم ولن يشيخَ.
اقرأ أيضًا: سعاد العامري، "رواق" الأولوية لترميم القرية الفلسطينية
تعتز أن الشرطة لم تدخل بيتها يومًا، أنها ربت أولادها على الأخلاق واحترام الغير والعطاء وتقول: "دار أبو قنديل حناين ع بعض كلهن شلعوطين ونص"!
حلمها كان أن تشهد تخرُّجي من " الدكتوراه " وكانت تتوعد أنها ستقوم وتلبسني سلسلة من الذهب أمام الجميع.
حفيدها المفضل؟، لا أعلم. هكذا كنت أشعر. في الحقيقة كلهم شعروا كذلك. ربما هذه عظمتها وحنكتها، لا أدري، لكن ذكراكِ خالدة أمّ محمد.
هذه بعض أحاديث جدتي رافقتُها حتى آخر يوم في حياتها، ذاكرتها بدأت تخونها في آخر أيامها، نسيَت أسماء أولادها وأحفادها أحيانًا، نسيت تفاصيل كثيرة، لكنها وفي قمة المرض وأوج حالات النسيان لم تنسَ تفاصيل النكبة والهجرة واللجوء، هو أرشيف مدموغ في الروح لا يمكن لمرض ولا لسقم ولا هرم أن يمحوَه. أسبوع قبل وفاتها حدثتني بالتاريخ والتفاصيل وكل ما مرت به تمامًا كما حدثتني به أوّل مرة وكأنها تريد أن تقول لي، هذا كنز وأمانة احتفظ به وحدث.
جدتي صبرية "أم محمد" لروحكِ السلام.