على الرغم من مرور 8 سنوات على اندلاع واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية، إلا أن العالم لم يودع بعد تداعيات الأزمة المالية التي جرت في أغسطس عام 2008، وأدت إلى حدوث انهيارات عنيفة في القطاعين المالي والعقاري الأميركي، وتوجت بانهيار واحد من أكبر المصارف الأميركية وهو "ليمان براذرز"، وبعدها انتقلت الأزمة المالية لأوروبا، حيث نشبت أزمة ديون منطقة اليورو التي تفاقمت بشدة في صيف 2011، وقبلها عصفت بكبريات البنوك الأوروبية.
وعلى الرغم من أن العالم ضخ مليارات الدولار لعلاج أزمة 2008، حيث خصصت البنوك المركزية الكبرى مليارات أخرى كحزم إنقاذ للبنوك والمؤسسات المتعثرة، إلا أن أسواق المال لا تزال تعاني تداعيات هذه الأزمة، فهناك بنوك كبرى لم تودع بعد حالة التعثر المالي، ولا تزال هذه البنوك توجه أرباحها لدعم مراكزها المالية وتغطية الديون المشكوك في تحصيلها، بدلاً من توزيع هذه الأرباح على المساهمين وحملة الأسهم، ولا يزال مجلس الاحتياط الفدرالي "البنك المركزي الأميركي" متردداً في رفع سعر الفائدة على الدولار، ولا تزال حزم الإنقاذ المالي مستمرة.
الآن، يبدو أننا على موعد مع أزمة مالية جديدة قد تكون الأعنف من سابقتها، أزمة تنطلق هذه المرة من بريطانيا، حيث يتعرض ثاني أقوى اقتصاد أوروبي لمخاطر شديدة تكاد تعصف به وبشركائه التجاريين والماليين مع مغادرة البلاد الاتحاد الأوروبي.
عقب الكشف عن نتائج الاستفتاء البريطاني "الصدمة" انتقلت أزمة صيف 2016 بسرعة من بريطانيا لأسواق المال العالمية التي خسرت ترليوني دولار، في يوم واحد، هو يوم الجمعة الماضي، الذي صنفه كثيرون على أنه أسوأ يوم، منذ أزمة أغسطس 2008، وتصاعدت الخسائر في اليومين الماضيين لتقترب من 3 تريليونات دولار، بل إن الأسهم الأميركية، كانت أكبر الخاسرين، حيث خسرت وحدها 830 مليار دولار في يوم واحد، هو يوم الجمعة موعد إعلان نتيجة الاستفتاء.
بوادر الأزمة الاقتصادية الجديدة عبر عنها تصريحان لافتان خرجا من الشاطئ الآخر للأطلسي، الأول للرئيس الأمريكي، باراك أوباما، الذي حذر، أمس الثلاثاء، من "هيستيريا" مالية عالمية بعد تصويت بريطانيا على مغادرة الاتحاد الأوروبي.
والتصريح الثاني جاء على لسان أهم شخصية مالية في العالم لنحو 20 عاماً، هو ألان غرينسبان، رئيس مصرف الاحتياط الفدرالي ( البنك المركزي الأميركي) الأسبق، الذى وصف ما يحدث في أسواق المال حالياً، بأنه الأسوأ الذي يمكن أن يتذكره، منذ أن دخل الخدمة العامة، وإنه يتخوف على مستقبل عملة اليورو، وسط هذا الاضطراب.
زلزال بريطانيا لن يقف عند حد حدوث انهيار في سعر الإسترليني، أو خفوت نجم حي لندن المالي، أو حتى عند حدوث انهيارات في البورصات العالمية، بل خطورته تكمن في أنه يجعل أسواق المال تعيش قلقة ومتوترة على أعصابها لمدة عامين، هي فترة الإجراءات المصاحبة لانسحاب بريطاني من الاتحاد الأوروبي، وذلك بسبب حالة الضبابية والغموض وعدم اليقين التي تتسم بها البورصات والأسواق العالمية، خلال العامين المقبلين، وهذه الحالة هي أشد ما يزعج المستثمرين الدوليين الذين يترددون في اتخاذ القرار.
وفي حال انتقال عدوى الانفصال البريطانية إلى دول أخرى، منها اسكتلندا وأيرلندا وهولندا وفرنسا فإن عقد منطقة اليورو قد ينفرط، وهو ما يعني إضعاف عملة اليورو، التي تعد ثاني عملة دولية لدى البنوك المركزية ومؤسسات المال وصناديق الاستثمار، بل وقد تؤدي لانهيار العملة الأوروبية الموحدة، والأهم قدرة أقل على معالجة الأزمات المالية التي تمر بها دول المنطقة وفي مقدمتها أزمات اليونان وقبرص وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال.
أزمة هذه المرة تأتي في الوقت الذي بدا فيه العالم منهكاً اقتصادياً، ضعيفاً مالياً، معدل نموه ضعيف، تزداد به المخاطر والقلاقل السياسية والحروب، فلم تعد هناك دولة أو كتلة يمكن أن تقود بمفردها الاقتصاد العالمي، فالاقتصاد الأميركي يعاني بشدة، وهو ما يجعله متردداً حتى في رفع الفائدة على الدولار، والاقتصاد الصيني في حالة ركود، وكذا الحال بالنسبة للاقتصاد الياباني.
أما اقتصاد منطقة اليورو فإن الأزمات تعصف به من كل جانب، ركود وتضخم وتراجع معدل النمو، وأخيراً، جاء زلزال بريطانيا ليربك، ليس فقط الاقتصاد الأوروبي بل وحتى الاقتصاد العالمي.