افتتاح مؤتمر "المركز العربي": سيرة مختصرة للعنف

12 سبتمبر 2015
رندا مداح / سورية
+ الخط -

بمُحاضرتيْ "الدولة الحديثة والتحكّم في العنف" و"منابع العنف، الدولة أولاً"، افتتح اليوم، في تونس، المؤتمر السنوي الرابع لـ "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في قضايا التحوّل الديمقراطي، تحت عنوان "العنف والسياسة".

ألقى المحاضرة الأولى الأكاديمي التونسي منير الكشو. في مقاربته لمفهوم العنف، يستند الكشو إلى أعمال مرجعية في الفكر السياسي، معتبراً أن الفترة التاريخية التي تمتد من القرن الخامس عشر إلى الثامن عشر شهدت تراجع العنف المجتمعي، وهو ما صار بالتوازي مع بناء الدولة الحديثة التي ستتكفّل بأداء الوظائف الأمنية والقضائية والخدماتية.

قلّصت هذه الأدوار من الجريمة، ووطّدت ثقة الناس بالدولة ليبدؤوا في الإقلاع نهائياً عن القصاص الفردي. إلى أن انتقلنا إلى حالة، مع نهاية القرن الثامن عشر، أصبح فيها العنف من المحرّمات، إذ أن الشخص الذي يشعر بالغبن لا يفكر في العنف وإنما في القانون. هكذا سيطرت الدولة على العنف وتحكمت فيه.

يشير الكشو أنه في المقابل، أصبحت الدولة صانعة للعنف، وهو ما أبرزه في نهايات القرن التاسع عشر المفكر الألماني ماكس فيبر، وبدأ بعده قياس ارتفاع أو انخفاض العنف في مكان ما بقدرة الدولة على احتكار العنف وهي فكرة مرتبطة بمفهوم الشرعية. وهو ما سيتطور في وقت لاحق بمحاولة إخضاع عنف الدولة نفسه إلى القانون.

يتساءل الأكاديمي التونسي "كيف تتحكم الدولة في العنف؟". يوضّح أن الفسلفة السياسية تنقسم هنا بين رؤيتين: "رؤية هوبز الذي يؤمن بعدوانية الإنسان التي لا تحدّها إلا القوة الردعية للدولة. ورؤية ثانية تتخذ روافدها من علم الاقتصاد خصوصاً مع آدم سميث وآدم فرغسون اللذين اعتبرا أن دخول الأفراد إلى مجال الحياة الاجتماعية، عبر التجارة بشكل رئيسي، هو الذي يحد من العنف".

يعرّج الكشو، في آخر طرحه لتطوّر مفهوم العنف، على التفرقة التي جدّت بين السلطة والعنف، مع فوكو ثم حنّة أرندت، حيث بيّن أن السلطة يمكن أن تتحكم دون ممارسة العنف، مستعملة أدوات أخرى مثل المراقبة والعلوم الاجتماعية.

في الجزء الثاني من مداخلته، يطرح الكشو سؤال "ما هي حظوظ التجربة السياسية في تونس بعد الثورة في التحكم في العنف؟". يرى هنا أن تونس تستفيد من أن نخبها ضمنت استمرارية الدولة واحترامها لتعهّداتها الدولية، بعد أن جرى إسقاط ديكتاتورية وُصفت بالمزدهرة والمستقرة، ما جعل العنف في الغالب يبقى دائماً تحت سيطرة الدولة إلاّ في بعض الحالات العابرة.

يلاحظ الكشو أن كل ذلك لا يجعلنا نستنتج بأن الشعب التونسي وديع ومسالم، فبمعايير العنف المسلط على المرأة أو على الأطفال وحالات الفقر والبطالة وتصدير المقاتلين، يظل العنف واقعاً متجسّداً. من هنا يبني سؤالاً جديداً، وهو "كيف نتحكم في العنف دون الوسائل القمعية السابقة؟".

هنا، يؤكد على ضرورة استكمال الهيئات القانونية ومسار العدالة الانتقالية، ما يعيد الثقة في الدولة، إضافة إلى دعوته إلى فاعلية المجتمع المدني بترشيد استخدام الدولة للعنف ومراقبة ذلك، وأخيراً عبر المرور من إصلاح تربوي.

المحاضرة الافتتاحية الثانية ألقاها الأكاديمي العراقي فالح عبد الجبّار، وقد حملت عنوان "منابع العنف، الدولة أولاً". ينطلق عبد الجبّار من المشهد السياسي العربي الذي يعرف بحسب تعبيره "خبلاً جماعياً أو حالة افتتان فيروسي بالعنف" يتجسّد في دول تعيش على حواف الحرب الأهلية (العراق وسورية وليبيا واليمن) و ثمانية أخرى يمثل العنف السياسي جزءاً من واقعها المعيش.

بالنسبة لعبد الجبّار، فإن الدولة هي الذات التي يتركّز حولها العنف في العالم العربي لاعتبارات عدّة يحاول تفكيكها. فالدولة العربية، وطريقة ممارستها للعنف، "تقف ضدّ المجتمع وضد نفسها" أي أن "عنف الدولة هو السبب الموضوعي لنتيجتين هما؛ غياب المواطنة وتفكك الدولة".

في ظل هذا الواقع، يتحوّل أفراد المجتمع إلى رعايا ويتولّد نظام تراتبي، بين فئات ذات حقوق عالية وامتيازات وأخرى بحقوق أقل، أي بين نبلاء ومهمشين، في حين أن المواطنة بمفهومها الذي تبلور في القرن الثامن عشر، يقتضي إنهاء النظام التراتبي الهرمي.

يطبّق عبد الجبّار هذه الأفكار على التاريخ العربي الحديث. ويرى أن من جذور سوء استخدام الدولة للعنف كونها قامت قبل تحديث المجتمع، وهذه الأولوية أعطتها وصاية وقدرة على التحكم، ثم نشأت من داخلها أنظمة يسميها بـ "التوتاليتارية الرثة"، ويسمّي الدولة التي أنتجتها بـ "الدولة الصوانية".

يربط عبد الجبّار بين هذا المفهوم الأخير ومسار "الربيع العربي"، حيث يرى أن البلدان التي تجسّدت فيها هذه "الدولة الصوانية" أكثر من غيرها مثل سورية ولييبا تعثر فيها التغيير، ولم ينجح نسبياً إلا في الدول التي عرفت شيئاً من الإصلاح على مستوى الدولة مثل تونس، والتي استفادت إلى جانب ذلك من كون دولتها لم تُبن على أساس عسكري، وتقل فيها الاختلافات الإثنية، هذه الاختلافات التي تلعب لعبتها مثلاً في اليمن وتعيق نجاح ثورته.

يؤكد الأكاديمي العراقي أن "هذه الدولة الصوانية تضخّ العنف باستمرار. وأن المجتمع يتشرّب هذا العنف حتى تأتي لحظة يطلقه ضد الدولة نفسها".

من "منابع العنف" الأخرى بحسب صاحب كتاب "العمامة والأفندي"، هو هيمنة الدولة على ثروة المجتمع. هنا، يكشف أن كل البلاد المتأخرة عن العصر الصناعي مرّت مجتمعاتها من هيمنة الدولة، بما في ذلك ألمانيا واليابان، وطبعاً كل البلاد العربية، إذ إن هذا التأخر يستدعي من الدولة الاعتماد على التحشيد لتعويض النقص في رأس المال الذي تتمتع به دول أخرى مثل بريطانيا أو فرنسا.

تصنع هذه الوضعية من الركيزة الأساسية للمجتمع، الطبقة الوسطى، طبقة رهينة لدى الدولة إذ إن أكثريتها الساحقة هي من الموظفين في أجهزة الدولة، وهو ما يخلق "عبودية الراتب" كعقد بين الدولة والمجتمع، ليفرض على هذا الأخير الرضوخ لـ"ديكتارتوية الحاجات" والتي تُفضي بدورها إلى هيكلة "اقتصاد أوامري" يتجه نحو احتكار الموارد، ما يتسببّ في تخزين العنف.

المساهمون