اغتيال جو كوكس.. العنف في أوروبا بوجهه البشع

19 يونيو 2016
اغتيالها "خروج عن المألوف"؟ (فرانس برس)
+ الخط -


في حمأة الجدال والنقاش حول الهويّة في أوروبا، لا توجد مجتمعات تمارس حرية التعبير قولاً فحسب. ومن المخجل ربط كلّ العنف بالعالم الثالث، ووصفه بأنه "ليس ظاهرة متحضرة"، إذا استثنينا جنون القتل المستشري في المجتمع الأميركي مع سهولة الوصول إلى السلاح. و"التحضّر" بالنسبة إلى عتاة التطرّف اللفظي الاسكندنافي، معرّف في "نحن الأوروبيّين".

النقاش حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو بقائها فيه، باعتراف الصحافة الغربية، بات نقاشاً فيه من التراشق والاتهامات ما يكشف عورة التطرّف. ويأتي قتل البرلمانية البريطانية جو كوكس قبل أيام، هي المعروفة بتعاطفها وتضامنها مع قضايا المهاجرين، ليبدو بالنسبة إلى البعض خروجاً عن "المألوف". وعدا عن أنّه خسارة كبيرة لعائلة كوكس، فإنّه خسارة أكثر فداحة للفكر التضامني الإنساني في المجتمعات عموماً. إذا كانت حملة لاستفتاء شعبي من سؤال واحد تستطيع أن تخرج ما في جعبة التطرّف فإنّ أسئلة أكثر عمقاً قد تظهر دمويّة تحت قشور الـ"نحن" المتحضّرة. كذلك الأمر في ردود أفعال جريمة قتل المثليين في أورلاندو، عندما راح أميركيّون يتساءلون: لماذا تُرك الباقون؟

العنف الذي نعرفه عربياً، عبر حرق يد كاتب في الحمض قبل رميه جثة هامدة لتربية الآخرين على سبيل المثال، هو من الممارسات التي تأتي بها أنظمة ترى في مجتمعاتها حديقتها أو مزرعتها. لكن أن يكون العنف في أعرق الديمقراطيات، فتلك مسألة قد تحيّر البعض فيما لا تحيّر بعضاً آخر يدرك حجم التحوّل الكبير الذي يطرأ فردياً وجمعياً في مجتمعات باتت التعددية فيها تفرض نفسها ديموغرافياً وأحياناً ثقافياً.

قتل جو كوكس مثل قتل شاب إريتيري لاجئ في ألمانيا العام الماضي، أو قتل متطرّفين لمهاجرين في باريس ولندن نفسها. في الوقت نفسه، فإنّ قتل سياسية برلمانية بهذا الشكل المريع لا يحمل رسالة بقدر ما يرمز إلى عمق تغلغل العنف كأسلوب في مجتمعات غربية. على عكس العنف الموصوف عربياً، لا تمجّد المؤسسة في هذه الدول الغربية القتلة ومرتكبي الاغتيالات. والصدمة توقف حتى مؤيّدي العنف لفظياً، على خلفية الاندهاش للجرأة.




جو كوكس ليست السياسية الغربية الأولى التي أُعدِمت ميدانياً بهذه الطريقة الوحشية، طعناً وبإطلاق النار، بينما كانت قد وعدت ناخبيها بمناقشة القضايا التي تشغلهم مباشرة في دائرتها الانتخابية.

في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، أصبحت المتغيرات واضحة في مجتمعات الغرب. ولا يُستثنى من ذلك العنف قتل مخرج هولندي على يد عربي وتهديد حياة سياسيين وناشطين عرب بتهم "الكفر والزندقة" في الغرب ذاته. ثمّة "بيئة خصبة" تتشكل في المجتمعات، يعيدها البعض إلى مراحل الانتقال من الأحادية إلى التعددية. ومثل كوكس، قضت وزيرة خارجية السويد السابقة آنا ليند ضحيّة للعنف في 11 سبتمبر/ أيلول 2003، على أثر تسع طعنات في محل ألبسة نسائية داخل مجمّع تجاري. يُذكر أنّها كانت تستعدّ للقاء تلفزيوني في مساء اليوم ذاته، لشرح موقف بلادها من الانضمام إلى منطقة اليورو.

قاتل آنا ليند سمع أصواتاً تقول له اقتلها. وفجأة صرنا نسمع عن أنّ القتلة في الغرب "معتوهون ومرضى نفسيون"، مثل سفاح أوسلو أندرس بريفيك، واليوم يسير قاتل كوكس في الاتجاه نفسه: أمركة المشهد. كلّ قتل متطرّف معتوه وغيره إرهاب.

مهما يكن التوصيف، والمشكلة ليست في ذلك أساساً، فنحن أمام / وسوف نكون مستقبلاً شهوداً على تزايد العنف في مجتمعات تعيش أزمة هوية حقيقية وعميقة بانقسام عمودي وأفقي بين "الوطنية" وما فوقها، على جانبَي التطرّف. عنف السبعينيات وحتى يومنا، قد يعيد إنتاج مشهدية اجتماعية خطيرة حذّر منها خبراء علم الاجتماع في أكثر من مناسبة: تبدأ بتراشق وتخوين ثم بصق وتوعّد.. فيخرج متطرّف لهذه الجهة وتلك لينفّذ ما سبق.

ما دخل المهاجرين في كلّ هذا العنف؟ ليس سراً أنّ البعض بات يتّخذ من موضوع الهجرة مشروعيّة تفشّي خطاب الكراهية. وحتى لا نصف أمراض "الآخر" فحسب، ثمّة من هو مهاجر وكأنه لم يهاجر. ثمّة من يقدّم سماداً لتربة اليمين المتطرّف. على سبيل المثل لا الحصر، قبل أيام معدودة، في أكثر المناطق ازدحاماً في كوبنهاغن، وبعدما كان الأمن بلباسه وسلاحه يتجهّز متخوفاً على الضيف جون كيري (وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية)، وأمام عدسات السياح في منطقة تيفولي، تسمع وترى مجموعة من الفتية مع صديقاتهم (لا يزيد عمر أكبرهم عن الخامسة عشرة) وهم يحاولون استفزاز الشرطة. لا ينجحون، فيركضون باتجاه المحطة المركزية وسط دهشة الجميع، وهم ينفخون سجائرهم قبل الإفطار بساعة ونصف الساعة، ويصرخون "الله أكبر". يردّدونها ثلاث مرّات.​

المساهمون