استعادة آرون ارنانديز على "نتفليكس": وثائقيّ يُعرّي خفايا ومسارات

27 يناير 2020
آرون إرنانديز: أيّ نظرة؟ أيّ عينين؟ (من الفيلم)
+ الخط -
لاعبُ كرة قدم أميركية، يجد نفسه في مهبّ ريحٍ قوية في يوميات عيشه. سلوكٌ هادئ ومُحبَّب، يضمر كمّاً من الغضب والتوتر والارتباك، ينكشف (الكمّ) في لحظاتٍ، تُبدِّل مصيراً وحيوات. يحمل تأثيراتِ تربيةٍ وضغوط، ويواجه أهوالاً ومغريات، ويكسب شهرة وأمجاداً وأموالاً. لكنّه يُعاني وطأة الثقل الرهيب لهذا كلّه، فيسقط في أكثر من فعل جُرميّ، ويدفع ثمناً باهظاً، يبدأ بحُكمٍ قضائي يفرض عليه سجناً مدى الحياة، وينتهي بالانتحار.

سيرة مُشوّقة، رغم أنّ أعوامها قليلة للغاية. تفاصيل مُثيرة للاهتمام والمتابعة، تفتح آفاقاً جمّة أمام أسئلة الانفعال والارتباط بالأب، والحضور متنوّع الأشكال لصورة الأب في الابن الرياضي وهيمنته عليه، وأسئلة الجنس والشهرة والمال والعلاقات والعنف والسلطة. وقائع تتناول أيضاً أحوال صناعة رياضية ومؤسّسات وإعلامٍ ونفوذ وسطوة. الحبّ حاضرٌ، والشعور بمعنى أنْ يكون المرء أباً حاضرٌ أيضاً، فالرياضيّ أبّ، يريد ـ لا شعورياً ربما ـ أنْ تكون ابنته توازناً له في عالمٍ غير مستكين وغير هادئ وغير مُريح. يقول لها، في اتصال هاتفي من سجنه، "إلى اللقاء"، فتُجيبه: "وداعاً". يُخبرها، على مسمع والدتها، ألاّ تستعمل هذا التعبير، لكنّها، بحسب الوالدة، تستخدمه لقدرتها على النطق به فقط (بالإنكليزية طبعاً). يُصرّ على مفردة "إلى اللقاء"، مع أنّه سينتحر بعد أيامٍ قليلة.

للصداقة في حياته مكانةٌ كبيرة، لكنّ ركائزها ومساحتها متذبذبة، بحسب ما يربطه بالآخرين. هو غير متردّد عن قتل ومحاولة قتل صديق أو أكثر، إنْ يُهدِّد الصديق صورته ومكانته في الاجتماع والرياضة والإعلام. لكنّ للرياضي صديقة متفانية في الدفاع عنه، وفي مواجهتها سرطاناً ينهش جسدها، فيكون (الرياضيّ) لها ملاذاً، لأنّها ملاذٌ له، خصوصاً عبر هاتف السجن.

اسم الرياضيّ آرون إرنانديز (1989 ـ 2017). لاعب فريق "باتريوتز نيو إنغلاند"، في موقع Tight End (من يصدّ لاعبي الفريق الخصم، ويتلقّى تمريرات الـQuarterback، وهذا يعني من يقف خلف صفّ الخصوم، ومن يُدير الهجوم). في 27 أغسطس/آب 2012، يوقّع عقداً مع هذا الفريق لمدّة 5 أعوام، مُمدِّداً مشاركته فيه إلى عام 2018. مكافأة بـ12 مليوناً ونصف مليون دولار أميركي، ورقم قياسي في موقعه داخل الفريق (Tight End). أما القيمة المالية للعقد، فتبلغ 40 مليون دولار أميركي. أول جريمة قتل يُحاكَم عليها لاحقاً تحدث في 16 يوليو/تموز 2012. ضحيتها شابان، هما دانيال دي آبرو وسافيرو فورتادو، اللذان يُطلِق عليهما الرصاص في سيارتهما، أثناء توقّفهما أمام إشارة مرور في جنوب بوسطن (بعد وقتٍ قليلٍ على حادثةٍ تحصل في ملهى ليلي). في 17 يونيو/حزيران 2013، يرتكب جريمته الثانية، التي يُحَاكم عليها أولاً: قتل أودن لويد، صديق شقيقة حبيبته. هناك أيضاً محاولة قتل صديقه ألكسندر برادلي، في أحد أيام فبراير/شباط 2013، في جنوب فلوريدا، "كي يمنعه من التحدّث عن جريمة بوسطن".



يُبنَى الوثائقي، بأجزائه الثلاثة ("القاتل في الداخل: عقل آرون إرنانديز" لجينو ماكدِرْمُت، بدءاً من 15 يناير/كانون الثاني 2020 على شاشة المنصّة الأميركية "نتفليكس")، على صُور وتسجيلات ولقاءات خاصة. يغوص في الذاتيّ والحميميّ، ويستعين بالمعلوم والواضح، وهذا كلّه لتبيان المبطّن في سيرة الرياضي، الذي ينتهي به المطاف بالانتحار في زنزانته (وللانتحار سببٌ يوحي به الفيلم: البقاء على قيد الحياة داخل السجن يحول دون الاستفادة المالية لعائلته. العكس صحيح. لكن، من يوحي له، داخل السجن، بهذا؟). محاكمته شبيهة، إلى حدّ ما، بتلك الخاصّة بأو. جي. سيمبسن (1947). لكن الفرق بينهما أنّ الثاني يُحاكَم بتهمة قتل زوجته السابقة نيكول براون سيمبسن وصديقهما رون غولدمان (12 يونيو/حزيران 1994)، وهو معتزل مهنته الرياضية، بينما الأول لا يزال في ذروة حضوره واشتغاله ونجوميّته عند ارتكابه تلك الأفعال الجُرمية. الثاني متّهم بقتل زوجة سابقة وصديقهما، والأول متّهم بقتل رجالٍ، بعضهم تربطه به صداقة. هذا سؤال يُضاف إلى أسئلة كثيرة: أي معنى للصداقة؟ كيف تُبنى؟ من همّ المقرّبون المتحوّلون إلى أصدقاء؟ أحدهم تاجر مخدرات. القتيل الأول رياضيّ أيضاً. الآخرون يأتون إلى مشهده الحياتي من أمكنة مختلفة.

اضطراب النفس والروح دافعٌ إلى انعدام سوية العقل والمنطق. الوثائقيّ غير معنيّ بمحاكمة بصرية، بل مُصرّ على السرد. فالسرد أساسيّ في الفهم والتنبّه والمصارحة. الاستعانة بأشرطة مُصوّرة داخل المحكمة يكشف جمالية سينمائية في صنع الكادرات، والنبش في المخفيّ داخل الرياضي. العدسة تلتقط وجهه، وملامح الوجه صامتة وهادئة. العينان تقولان أشياء كثيرة بتحرّكهما أو بسكونهما. كأنّ المُصوّر سينمائيٌ يبرع في اقتناص اللحظات وتوثيقها، ريثما يأتي من يُظهِر الجماليات السينمائية للموثَّق.

هذا يُناقِض تسجيلات أخرى، مُصوّرة بكاميرات مراقبة، وهذا أسوأ أنواع التصوير، فهو تلصّص (بصورته القبيحة) يُوثّق ما يراه المتلصّصون انحرافاً عن الجماعة أو فعلاً ضدّياً لها، كالسرقة والقتل والاعتداء. التلصّص، عبر كاميرات المراقبة في المنزل، تبغي توثيقاً لأفعالٍ كهذه من مُعتدين، لكنّها تُصوّر أيضاً يوميات عادية لأصحاب المنزل، ولمقيمين فيه، ولقادمين إليه.

"القاتل في الداخل" عنوان مُثير لحشرية المعرفة، المنبثقة من تساؤلات تُختَصر بالتفسير النفسيّ: في داخل المرء قاتل يظهر في لحظة ما. هذا ليس إسقاطاً على العنوان أو تحريفاً له، بل مجرّد قراءة. معطيات عديدة تتعلّق بحياة سابقة على الشهرة والجريمة تشي بهدوء وطيبة وعلاقات عائلية سوية، رغم تشدّد الأب في مسائل الرياضة والجنس، فهو (الأب) رافضٌ للمثلية الجنسية مثلاً، التي ستكون جزءاً شبه مخفيّ في سيرة آرون إرنانديز، ولعلّها ستكون أيضاً سبباً أساسياً لارتكابه القتل. ورغم ارتباطه العاطفي بشايانّا جانكينز، وإنجابه طفلة منها (آفيال جانيل جانكينز ـ إرنانديز، نوفمبر/تشرين الثاني 2012)، تبقى المثلية الجنسية جزءاً من سيرته وعواطفه ورغباته. الوثائقيّ يُلمّح إليها، كتلميحه إلى مسائل سلوكية وانفعالية ونفسية أخرى، تقوده إلى مطبّات، وتضع عوائق أمامه، لعلّ القتل وحده يُبدّدها.

الوثائقيّ نفسه يُتيح التعرّف على ما تكشفه المحاكمة، بإعادة بثّ لقطات كثيرة منها: تربية فوضوية، تتخلّلها إساءات غالباً، وانبهارٌ متنامٍ بالعصابات. جينو ماكدِرْمُت يحصل على تسجيلات مُصوّرة خاصّة وغير مبثوثة سابقاً، من داخل قاعة المحكمة، وعلى تسجيلات صوتية لاتصالات هاتفية يُجريها إرنانديز، من السجن، مع والدته وصديقته وابنتهما، كما مع مقرّبين منه. هناك لقاءات خاصّة بالوثائقيّ أيضاً، يُجريها مخرجه مع أناسٍ يعرفون إرنانديز ولويد: "ما يُفْتِنُني بالقصّة والتوقيت، أنّنا كنا نذهب إلى محاكمته الثانية، والجميع يبدون كأنّهم ينسون آرون. يقولون إنّ هذا الرجل سفّاح، وقاتل مُدان، ولديه أوشام، وإنّه سيُمضي حياته في السجن. يقولون أيضاً إنّ القصّة القديمة هي نفسها، وإنّه سيُدان مجدّداً"، كما يقول ماكدِرْمُت، مضيفاً، في حوارٍ مع إليزابيت غاربر ـ بول، منشور في "رولينغ ستون"، في 16 يناير/كانون الثاني 2020: "أروي قصصاً كثيرة عن جرائم قتل حقيقية. طفولتي شاهدة على ممارستي رياضات كثيرة. هذا شيء أُفتَن به، وهو دافع لي إلى الغوص بهذا الموضوع".

البداية تحدث عام 2017، بلقاء أول (أحد أيام يناير/كانون الثاني من العام نفسه) مع دان ويتْزل وكِفن أرمسترونغ، الصحافيين الرياضيين المعروفين بمتابعتهما الدقيقة لمسار القضية والمحاكمة، والمشاركين مع آخرين في الإنتاج التنفيذي لوثائقيّ جينو ماكدِرْمُت، الذي يُنتج عمله بمفرده أولاً، محاولاً إنجاز الأفضل بإمكانيات متواضعة. بعد 18 شهراً، ينتهي الفيلم، ويُقدَّم إلى مهرجان "دوك نيويورك". ثم المُشاركة مع "نتفليكس"، المطالِبة بتحويله إلى 3 أجزاء: "مع بداية تنفيذ المشروع، لديّ رغبة في مشاركة المنصّة الأميركية، وفي أنْ يُصبح أفضل الإنجازات الوثائقية، في مجال جرائم القتل الحقيقية وأهمها، عند "نتفليكس". فيلمي مصنوع في 90 دقيقة، لكن مشاركة "نتفليكس" تجعله 3 أجزاء بأكثر من 3 ساعات بقليل (200 دقيقة)".

أوشام كثيرة، مرسومة على جسد آرون إرنانديز ويديه، تقول بعض المخفيّ في عقله ونفسه وروحه وارتباكاته وأهوائه. تعكس داخلاً يحاول الوثائقي، مع التسجيلات المُصوّرة والصوتية، كشف الكثير منها. "القاتل في الداخل (Killer Inside)" عنوان عميق وقاسٍ، يُستشفّ منه عدم إسرافٍ في الترويج لجُرمٍ، بقدر ما يبغي وضوحاً. فالوثائقي سيرةٌ، والسيرة جاذبة للمُشاهدة، وللنفاذ إلى داخل رجل رياضي، وإلى كواليس حياته وأشيائه وانفعالاته.
المساهمون