استحقاقات مونديالية
لم أقصد سوى المشاغبة على أفراد العائلة والأصدقاء المهووسين بكرة القدم من الجنسين، حين كتبت جملة بوستات على صفحتي في "فيسبوك"، لا تخرج عن نطاق المناكفة البريئة، بدأتها بالإعلان عن إحساسي بالغربة، حين ينهمك الجميع في أشياء لا أحبها، ثم صعّدت خطابي المعادي، وأدنت هذا الانهماك الكوني (بالطابة!)، وناديت بسقوط كأس العالم، حتى إنني طالبت بتشكيل رابطةٍ من كارهي كرة القدم، لاقت ردود فعل ممتازة، إذ ناهز عدد الراغبين في الانضمام إلى الرابطة المقترحة مائة، وابتهلت إلى الله بان يعطل الرسيفرات، وأن تنهزم فرق الأصدقاء المفضلة، واتهمت الصديقات المشجعات للطليان الوسيمين بأن انحيازهن ليس له علاقة بأدنى دراية رياضية.
والحق أنني أحب أجواء المونديال، لأن لها سحرها وخصوصيتها، حيث أجواء احتفالية صاخبة وحيوية في البيوت، تنافس ونقار خفيف، قفزات الآباء المفاجئة عن مقاعدهم عند اقتراب الكرة من المرمى، الصيحات المشجعة أو المقرعة للاعبين الذين يضيعون فرصة ذهبية في أوقات ثمينة، تبرم الزوجات من هوس رجالهن الكروي الذي يحول دون متابعتهن مسلسل سرايا عابدين، حيث الخصومات بين حريم السلطان أكثر إثارة للفضول.
فاجأتني تعليقات متشنجة كثيرة، مفرطة في جديتها وصرامتها، وبأحكامها المتسرعة التي حمّلت الموضوع أكثر مما يحتمل بكثير، فنالت من وطنية عشاق كرة القدم وإنسانيتهم وحساسيتهم وذوقهم، واتهمتهم بعدم الغيرة على فلسطين، وبتجاهل عذابات الأهل في سورية، والدمار الذي يحيق بالعراق. وهذا طرح جائر، نسمعه كثيراً، يتهم عشاق الكرة بالانجراف وراء مسائل تافهة، وبعدم الاكتراث بقضايا الأمة، وبالتشبه بالغرب المترف، غير العابئ بمعاناة الشعوب المسحوقة.
معروف أن كرة القدم هي اللعبة الأكثر انتشاراً في أرجاء الدنيا كافة، والأصل أنها لعبة أولاد حارات شعبية فقيرة مكتظة، يمارسها الفقراء ممن لا يملكون ثمن كرة لائقة، فيتدبرون أمرهم بكرة يصنعونها من جوارب قديمة، أو كتلة شرائط محكمة الالتفاف، ويرتجلون مرمى من كومة حجارة وألواح زينكو.
وغالباً ما انبثق من تلك البيئات الفقيرة نجوم عظام، من وزن بيليه ومارادونا ورونالدو وغيرهم، شكلوا مفاصل أساسية في تاريخ اللعبة، باشروا تدريبهم الفعلي في تلك الأزقة الضيقة، وبلغوا مرحلة الاحتراف، من دون كلفة تذكر، وبمجرد أن تدفعهم أمهاتهم إلى اللعب في الحارة، إلى حين إعداد وجبة العشاء، ليتحولوا، في نظر مواطنيهم، إلى أبطال قوميين، حازوا الشهرة والفخر لبلادهم، فنافسوا أعتى نجوم السينما، وتلقفتهم أقوى الأندية الرياضية بأسعار فلكية، وتهافتت عليهم الشركات العملاقة، وحولتهم إلى وجوه إعلانية ذائعة الصيت، اكتسحت جنبات الكرة الأرضية، وحققت أعلى الأرباح.
عادي جداً هذا الشغف والافتنان الكروي، الحاصل لدينا، باعتبارنا جزءاً من هذا العالم المجنون، وهو لا يتعارض، على الرغم من طغيانه، مع المشاعر الدينية والوطنية، ولا يمكن أن ينسينا همومنا وقضايانا السياسية الكبرى العالقة، غير أنه، مثل الموسيقى وسائر الفنون، ليس أكثر من فسحةٍ للتخفف من كل ذلك العبء الذي يفرضه واقعنا الذي لا يخلو من مرارة.
قد يضحك الإنسان في دار عزاء، حتى لو كان المتوفى قريباً جداً منه، تلك حاجة إنسانية طبيعية، نتحايل فيها لبرهة على أحزاننا، ليتنا لا نستكثرها على أنفسنا.
ذلك استحقاق مونديالي موسمي، يفهمه كثيرون، وهو أمر متوقع ومبرر إلى حد بعيد، طالما توقف عن حد تذوق جماليات اللعبة، والاستمتاع بالفن والإبداع والدهشة والتشويق الذي يميزها على ذمة متابعيها، من دون أن يبلغ حد التطرف بالاحتفال والتشجيع الأرعن، من خلال مظاهر استهلاكية مبالغ بها، مثل طلاء الوجوه، والأزياء والإكسسوارات من قبعات وأعلام ومظاهر غرائبية، يقلدها الشباب والصبايا في بلادنا، وأحياناً يقوم بها بعض كبار السن ممن تجاوزوا، منذ زمن، سن المراهقة الرياضية الذي يبيح، في العادة، ارتكاب حماقاتٍ كثيرة.