لكن لا يمكن فصل تكرار الاتحاد الأوروبي لدعوته عن تزايد الشكوك حول جاهزية لندن لتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة (التي تضع قواعد مغادرة أي دولة للاتحاد الأوروبي) والشروع في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، لا سيما أن المعلومات التي ترشح عن مكتب رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، تشير الى أن تفعيل المادة لن يتم قبل نهاية 2017، ما سيؤدي إلى تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد إلى نهاية 2019.
ويرى مراقبون أن الحكومة البريطانية، ربما تكون مدفوعة بعدد من العوامل الداخلية والخارجية، التي تجعلها تفضل التمهل قبل تفعيل المادة والشروع في مفاوضات الخروج النهائي من الاتحاد الأوروبي، ومن ذلك عدم الاستعداد والجاهزية على مستوى الجهاز الحكومي.
وبحسب صحيفة "صنداي تايمز"، فإن الحكومة البريطانية، وعلى الرغم من استحداث وزارتين جديدتين من أجل تولي مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي هما وزارة الخروج من الاتحاد الأوروبي ووزارة التجارة الدولية، إلا أن الفوضى لا تزال تسيطر على الوزارتين. فالأولى لم تعين سوى 250 موظفاً وهو أقل من نصف العدد الذي تحتاج له الوزارة، أما الوزارة الثانية فلا يوجد بها سوى 100 خبير اقتصادي فقط، وهو عدد لا يكفي احتياجات الوزارة التي ستتولى التجارة العالمية بعدما تخسر بريطانيا امتيازات التجارة مع أوروبا. يضاف إلى ذلك الغموض والتداخل في تفاصيل اختصاصات كل من الوزارتين لا سيما في ما يتعلق بالملفات الاقتصادية.
ويبدو أن حكومة تيريزا ماي، التي تولت مهامها في يوليو/ تموز الماضي، ترغب أيضاً بالتفاوض مع دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة أو منفردة لضمان علاقات تجارية واقتصادية متميزة، حتى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وقد أشارت رئيسة الحكومة البريطانية إلى ذلك صراحة الشهر الماضي، عندما طالبت الاتحاد الأوروبي بالعمل لتطوير "نموذج علاقة خاص" يناسب المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، معتبرة أنه لا ينبغي الاعتماد بالضرورة على أي نموذج "مسبق الصنع".
ويشير رفض ماي لأي "نموذج جاهز" إلى عدم إمكانية قبول بريطانيا "النموذج النرويجي" الذي يعني أنه يمكن لبريطانيا الانضمام للمنطقة الاقتصادية الأوروبية، وبالتالي الدخول إلى السوق الأوروبية الموحدة، مع تحريرها من قواعد الاتحاد الأوروبي الخاصة بالزراعة، ومسائل العدالة، والشؤون الداخلية.
كذلك تعكس تصريحات ماي عدم قبول "النموذج السويسري" الذي تصبح بريطانيا بموجبه مثل سويسرا، ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي لكنها تتفاوض معه على اتفاقيات تجارية على أساس قطاع بقطاع من خلال اتفاقيات ثنائية متعددة. كذلك تعارض ماي "النموذج التركي"، أي أن تقوم بريطانيا بإبرام اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي و يتم إعفاؤها من حرية حركة المواطنين الأوروبيين، مقابل حرمان البريطانيين من حرية الحركة داخل الاتحاد الأوروبي.
يضاف إلى ذلك أن حكومة لندن، تفضل الانتظار إلى ما بعد الانتخابات العامة الفرنسية والألمانية التي ستجرى العام المقبل، إذ إن نتيجة الانتخابات في كلا البلدين ستحدد مسار المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، لاسيما إذا ما أفضت إلى خروج المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من الحكم، وهي التي تتوعد بريطانيا بمفاوضات قاسية.
أما العامل الآخر الذي يدفع حكومة لندن إلى تأخير المفاوضات مع الاتحاد فيتمثل في تجميع المزيد من أوراق القوة قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ومن ذلك التوصل إلى تفاهمات اقتصادية مع شركاء تجاريين غير أوروبيين، مثل كندا وأستراليا ودول مجموعة "البريكس" بما في ذلك روسيا. وقد ظهر ذلك جلياً في أول زيارة قام بها وزير التجارة الدولية، ليام فوكس، إلى كندا الشهر الماضي، وقوله إن بلاده بدأت محادثات تجارية "مثمرة للغاية" مع كندا. وفي مقابلة مع صحيفة "صنداي تايمز"، قال إنه يسعى لإبرام نحو 12 اتفاقية للتجارة الحرة خارج الاتحاد الأوروبي لتكون جاهزة عندما تنسحب بريطانيا منه. وأشار إلى أنه "بوسعنا أن نجعل بريطانيا منارة للتجارة الحرة... لدينا بالفعل عدد من الدول التي تقول إننا نحب أن نبرم اتفاقاً تجارياً مع خامس أكبر اقتصاد في العالم دون أن نضطر للتعامل مع باقي الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي".
وغير بعيد عن العوامل السياسية والاقتصادية التي تتذرع بها الحكومة لتأجيل بدء مفاوضات الخروج من الاتحاد، تجري مساجلات قانونية حول صلاحيات الحكومة لتفعيل تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة قبل تصويت برلماني على نتيجة استفتاء يونيو/حزيران الماضي، وهو ما ظهر جلياً في تصريحات محامي الحكومة البريطانية، جيسون كوبل، عندما أشار إلى أن بريطانيا لا تعتزم البدء في مفاوضات رسمية بشأن مغادرة الاتحاد الأوروبي هذا العام. وأبلغ جيسون كوبل المحكمة العليا أن حكومة ماي لا تعتزم تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة قبل إصدار حكم بشأن ما إذا كانت السلطات التنفيذية لرئيسة الوزراء ماي تسمح بتفعيل المادة 50، التي تبدأ عملية مفاوضات لمدة عامين، دون تصويت في البرلمان. وقد حدد اثنان من قضاة المحكمة العليا قبل فترة موعداً في شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل لعقد جلسة مراجعة قضائية للقضية.
ويعتبر سياسيون بريطانيون أن التأجيل حتى العام المقبل يعني بقاء البلاد في الاتحاد حتى نهاية عام 2019، وهو الأمر الذي قد يُثير غضب الملايين الذين صوتوا لصالح خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي المشترك في استفتاء 23 يونيو/حزيران الماضي.
في المقابل، يراهن مناصرو بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي على تأجيل تفعيل لندن للمادة 50 من معاهدة لشبونة، لتغيير مواقف الناخبين على أمل إجراء لاستفتاء ثان يُثَبّت عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.