اختفاء الدول وانقراض الأمة

21 يوليو 2015
+ الخط -
هل لا يزال لمصطلح "الأمة العربية" مضمون سياسي قابل للاستعمال المشترك؟ وبتعبير آخر، هل الواقع الراهن، على الصعيد الإقليمي، لا يزال يعكس دلالات هذا المصطلح الذي عاشت المنطقة قرابة قرن في ظله، وشكل مرجعية لقادتها وسياسييها ونخبها وشعوبها؟ يؤكد النظر في ما يجري في الواقع أن مفهوم الأمة، ذات المقومات المشتركة، يتعرض لسلسلة من الضربات العنيفة، ما جعله يتراجع على مختلف الأصعدة الجغرافية والسياسية والأيديولوجية. ويتجلى ذلك في مظاهر ومؤشرات عديدة. 
توقع رئيس المخابرات الأميركية السابق، مايكل هايدن، قرب اختفاء دولتين كبيرتين ومهمتين، في حجم كل من العراق وسورية. وما يحصل يدعم ما ذهب إليه، ولا يلغيه. فالأحداث الجارية تؤكد أن العراق الموحد في اتجاه الانقراض. تفكك هذا البلد بشكل واضح، والمنطقة الكردية تسرع الخطى نحو الانفصال، بعد أن توفرت لها كل مقومات الاستقلال وشروطه. في حين يحاول الشيعة، بدعم إيراني قوي، الاحتفاظ بالمناطق السنية تحت لوائها. لكن، نتيجة سياساتهم الظالمة وغير العادلة تشكلت بين الدائرتين، الشيعية والسنية، حواجز عميقة ملطخة بالدماء والأحقاد، ما جعل الحرب لغة الخطاب السائدة بينهما.
إذا انتقلنا إلى سورية، وجدناها قد تحولت، بدورها، إلى أجزاء متقطعة، تحكمها المليشيات المختلفة، وتهمين على أبرز فصائلها خطابات طائفية، وفوق قطرية، لا تؤمن بالدولة الوطنية، وتحمل مشاريع طوباوية، متناقضة مع ما استقرت عليه خريطة سايكس بيكو.
في اليمن، حرب أهلية مفتوحة على جميع الاتجاهات. وخليج خائف على نفسه من هذه التحولات العاصفة. ومصر على فوهة بركان. وليبيا تبحث عن وحدتها الضائعة. وفي الجزائر، عاد الصراع المالكي الإباضي ليزيد من حالات الاحتقان في هذا البلد الذي يواجه تحديات خطيرة، إلى جانب استمرار خلافه مع المغرب الذي على الرغم من صعوده الاقتصادي، فإن تناقضاته العرقية بين المغاربة، ذوي الأصول العربية والأمازيغية، لا تزال تثير قلق أصحاب القرار والرأي.
انكسرت المفاصل القديمة والأساسية للمنطقة التي كانت تربط بين وحداتها الاستراتيجية، وتعطيها هوية رمزية وسياسية، حتى لو كانت ضعيفة. لم تعد هناك دول محورية قادرة على حماية التوازنات الإقليمية. لم تعد هناك دول محور وأخرى أطراف. اختفى المطبخ المشترك لصناعة قرارات موحدة، حتى لو بقيت شكلية، فمصر خرجت من اللعبة، والسعودية، في غياب سورية والعراق، تحاول أن تبقى الملجأ، لكنها لا تملك كل مقومات القيادة. الجميع في حالة هشاشة، وأي دولة يمكن أن تختفي إذا لم تتدارك أمرها، وتنجز الإصلاحات الضرورية لتأمين بقائها.أصبح الغرب اللاعب الرئيسي في تحديد مصير المنطقة، في مقابل قوى أيديولوجية، تعتقد أنها قادرة على تعديل موازين القوى، لكن نتائج أعمالها تجعل منها حليفاً موضوعياً للقوى الدولية الطامعة في مواقع هذه الأمة وثرواتها.
لم تعد هناك في العالم العربي دولة قائدة، كلماتها مسموعة وإرادتها فاعلة. استوت الدول الكبرى والصغرى، وتغيرت معها مفاهيم الأمن القومي، وأصبح كل نظام يعتمد، بالأساس، على إمكاناته الذاتية، وعلى قدرة المناورة مع الدول الغربية الأساسية. بمعنى آخر، ما يجري يؤكد أن العقد الجامع لمكونات "الأمة" في حالة تفكك سريعة، وأن حجم المخاطر يزداد يوماً بعد يوم.
في هذه المحطة الخطيرة، تبدو النخب السياسية والفكرية عاجزة. لم يستطع القوميون تجاوز عوائقهم الذاتية، على الرغم من أنهم الأكثر دفاعاً على مستوى الخطاب عن "وحدة الأمة". وكذلك اليسار العربي يعيش انقساماته التي لا تنتهي، على الرغم من تغير الأزمات والتحديات. أما الإسلاميون، وإن ما زالوا يتمتعون بتمثيلية وازنة، فإن بعضهم أخفق في اختبارات الحكم، وبعضهم أوقد النيران في البيت الداخلي، وآخرون يسيرون فوق صراط شفرته حادة جداً.
على الرغم من أن المشهد قاتم، إلا أن اللعبة لم تنته، ولا تزال الفرص متاحة للنجاة من السقوط المدمر، شريطة اكتساب الوعي ومراجعة الحسابات والرهانات الخاطئة.
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس