اختراقات الخيال

04 سبتمبر 2018
ماسينيسا سلماني/ الجزائر
+ الخط -

تشوب الرواية لعبة احتيال مكشوفة، تكاد لا تخلو منها رواية، من دونها كأن الرواية تتخلّى عن روائيتها، ففي استغلال قدر من الخيال، ما يفي بالاحتيال على القرّاء. عموماً، الغالبية العظمى منهم يُقرّون بتواطؤهم مع الكاتب، ربما لأن الرواية واقع من نوع خاص، ليست حقيقية بالكامل، ولا تخيّلاً بالكامل، في الوسط الذهبي تميل بينهما. لذلك يجري الكلام عنها، كأنهم عايشوا أحداثها وشخصيّاتها، ويدبّج النقاد آلاف الصفحات، ما يوحي بمعرفتهم أبطالها أكثر من الأشخاص الذين على مقربة منهم.

يأخذ الخيال أحجاماً غير عادية في روايات الخيال العلمي، وروايات الخيال المحض التي تعجّ بالغرائب من أشباح ومصّاصي دماء. وليس بدعاً حكايات ألف ليلة وليلة، فالبساط الطائر والمصباح السحري والجن والعفاريت، ترقى بالخيال إلى تنويعات طريفة.

الروايات التاريخية مصابة بهذا الداء الجميل، لا يمكن الذهاب إلى التاريخ من دونه، مع أن الرواية مهما بلغت من الإتقان والإلمام بالتاريخ، لن تُضاهي مصداقيّته، حتى المؤرّخين الثقاة الذين أفنوا أعمارهم في دراسة العصور السالفة، ليسوا على ثقة كاملة باستعادة عصر ما، ثمّة ثغرات يصعب تذليلها. بينما الروائي يتغلّب عليها بمشقّة، وربما بسهولة. فالخيال يردم ثغرات لا يتجرّأ المؤرّخ عليها، ما يقيّده لا يقيّد الروائي.

لا يعني أنه يقفز فوق الحقائق، فالخيال التاريخي لا يستطيع العمل إلا بقدر معقول منها، تشكّل أرضية ينطلق منها ليغوص في التاريخ، مجازفاً باختراق ما هو موصد ومجهول، فالطبائع البشرية لا تتغيّر، ولا تترقّى مع ترقّي الحضارة، ما زالت في بدائيتها، لا تسعى إلى التغلّب على انحطاطها، بقدر ما تتخفّى عليها.

ولا تُستثنى الروايات البوليسية، رغم الوقائع المادية والأدلة والبصمات وموقع الجريمة، فروّادها الكبار مثل سير آرثر كونان دويل وآغاتا كريستي، خطّطوا للجريمة الغامضة، التي استعصت على شرطة سكوتلاند يارد، وكشفوا عنها بمعونة شرلوك هولمز وهيركيول بوارو، باستخدام الذكاء بمستوياته العالية، غالباً العبقرية، بينما في الرواية، لعب الخيال دوره بالعقدة والحل، وتمكّن من إقناعنا بمنتهى الحذاقة بجريمة محكمة على أنها حقيقة، بينما لا جريمة وقعت، ولا أحد فارق الحياة، ولا القاتل دس السم في الشراب، أو أغمد خنجراً في صدر الضحية.

لا تعدم روايات الجريمة جانباً إيجابياً لافتاً يشفع استثمارها في المتعة، فالغاية التي كرّست لها تشهر مقولة "إن الجريمة لا تفيد". مهما بلغ ذكاء المجرم لا محالة سيدفع ثمن جرائمه، والعدالة ستأخذ مجراها. مع هذا لم تقنع هذه العبرة المجرمين، فالخيال الإجرامي يسوّل لهم جني فوائد لا يستهان بها، توفّر لهم البقاء على قيد العمل.

والدليل، لئلا نذهب بعيداً، إجرام الدكتاتوريات، لا يحتاج حتى إلى الشرطة المحلية لكشفه، فهو يمارس في العلن وموثّقاً، ودونما عقاب، وبتواطؤ من الديمقراطيات.
ترى، هل يستطيع الخيال الروائي إغلاق الثغرة بين الدكتاتوريات والديمقراطيات؟

المساهمون