احتكار قوت التونسيين... كيف تفاقم التلاعب بالمواد الغذائية خلال جائحة كورونا؟

تونس

بسمة بركات

avata
بسمة بركات
19 يونيو 2020
765E9CA6-3DA0-4C02-BE4A-E0C1C1BC5BC8
+ الخط -
 
يحذر سليم سعد الله، رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك في تونس، من تداعيات المضاربة واحتكار مواد غذائية ولا سيما السميد (الدقيق) والطحين والذي تفشي خلال جائحة فيروس كورونا المستجد، بعد تورط مسؤولين وموظفين حكوميين استغلوا نفوذهم والمسالك الموازية للتلاعب في قوت الفقراء وفق ما قاله لـ"العربي الجديد"، موضحا أن سلسلة المحتكرين الطويلة تنتهي عند التجار وأصحاب المستودعات.

تفشي ظاهرة الاحتكار يكشفه إحصاء حصل "العربي الجديد" عليه من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، التي تلقت 8440 بلاغا عن متورطين بالاحتكار، بينهم 1300 موظفون في وزارات ومؤسسات حكومية، وعمد ومعتمدون، و100 عضو منتخب في جماعة محلية (مجلي بلدي) ومجلس النواب، خلال الفترة من 2 مارس/آذار وحتى 15 مايو/أيار الماضي وفق ما أكده فوزي الشمنقي، المستشار القانوني في الهيئة لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى تلقي 5 آلاف بلاغ مرتبط بممارسات احتكارية وزيادات في أسعار المواد الغذائية.

وخلال تلك الفترة تلقت الهيئة 500 بلاغ عن استغلال النفوذ من قبل مسؤولين محليين، و600 بلاغ عن تورط معتمدين وعمد، في التلاعب بمسالك التوزيع والمساعدات الاجتماعية، و300 بلاغ عن التداخل في مسالك التوزيع وفق تأكيد الشمنقي.

ويعترف مولدي المبروكي، المعتمد السابق بمدينة فوسانة في محافظة القصرين غربي تونس، بتورط معتمدين وعمد في احتكار الدقيق، معيدا الأمر، إلى الضغوطات التي تمارس من قبل بعض الأطراف السياسية والحزبية والنيابية، قائلا :"بعض الأحزاب السياسية تتواصل مع المحافظين الذين يتصلون بالعمد وهؤلاء يتواصلون مع المعتمدين، لتنفيذ الأوامر الخاصة بتوزيع المساعدات الاجتماعية أو الإعانات الغذائية والتي تقضي بتزويد أشخاص، ومحلات دون غيرها".

ويتولي كاتب عام المحافظة التنسيق مع المعتمدين لضمان تزويد مناطقهم بالدقيق مثلما حصل خلال جائحة كورونا. ولكن بعض المتنفذين من المحتكرين يضغطون على المعتمدين والعمد والبعض منهم ينساق طواعية، فيحصل التلاعب والاحتكار، بحسب المبروكي.

ويقبل بعض المعتمدين الضغوط من السياسيين للاستمرار في مناصبهم، ولإرضاء رؤسائهم ما يؤدي إلى تزايد ظاهرة الاحتكار، كما يقول المبروكي لـ"العربي الجديد"، مبينا أن هناك تعليمات بالهاتف لعمد، يحصلون على تراخيص للتزود بالدقيق من المطاحن، ولكن بدل توزيعه على أصحاب المحلات والمواطنين يتم احتكاره لتوزيعه على أطراف تعرف بولائها السياسي دون غيرها.





لماذا تفشت الظاهرة؟

ما أوضحه المبروكي عبر معايشته لتجربة العمل كمعتمد، يؤكده فوزي الداودي، المساعد الأول لوكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بمدينة الكاف الواقعة شمال غربي تونس، إذ تورط مؤخرا 3 مسؤولين محليين في احتكار المواد الغذائية، ومنهم عمدة استغل صفته ليتزود بالدقيق من موزع كان يتعين عليه توزيعه على محلات المواد الغذائـية، وفق ما يقول لـ"العربي الجديد"، وتابع أن معتمدين في المنطقة، وجهت لهم نفس التهم.

ومن أسباب تورط بعض المسؤولين المحليين، في احتكار المواد الغذائية، تعيين بعض العمد والمعتمدين وفقا للولاءات الحزبية، وليس استنادا لمعايير الكفاءة والنزاهة، وفق ما يقوله لـ"العربي الجديد" المحامي والنائب البرلماني عن حركة الشعب (حزب ناصري) خالد الكريشي.

ويضاف إلى تلك الأسباب، نقص المراقبة على المسؤولين المحليين، وغياب الحوكمة وعدم الاستقلالية في القرار، والاتجاهات السياسية التي يغيب عنها الحياد، وفقدان آليات إدارة الأزمات وغياب الضمير المهني، وغياب المساءلة والجدية والصرامة في تنفيذ العقاب كما يقول الخبير في شؤون التنمية المحلية بلقاسم الزيتوني، والذي عمل مستشارا في التنمية المحلية مع عدة منظمات، ومنها الفاو وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

 


 


تفاقم الاحتكار في المناطق الريفية

يجمع 3 من مصادر التحقيق على أن ظاهرة التلاعب بقوت التونسيين تتفاقم في المناطق الريفية. ومنهم الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان، عضو المكتب التنفيذي السابق لحزب نداء تونس والمدير السابق للمؤسسة المصرفية العربية فرع تونس، والذي أكد على أن احتكار المواد الأساسية، كالدقيق والطحين والزيت النباتي، تنامى أكثر في المناطق الريفية، مثل الشمال الغربي والوسط الغربي لتونس.

وهو ما يؤيده المستشار القانوني للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، مؤكدا أن الهيئة تلقت 500 بلاغ بنقص المواد الغذائيّة في بعض المناطق الريفيّة النائية خلال الفترة من 2 مارس/آذار وحتى 15 مايو/أيار الماضي.

ومن المناطق الريفية التي تفاقمت معاناة سكانها نتيجة لذلك، عين دراهم بمحافظة جندوبة شمال غرب تونس، وسيدي بوزيد والقصرين بالوسط الغربي، بعد أن قطعت عنها المواصلات بسبب حظر التجول الشامل في 22 مارس الماضي وفق ما يقول سعد الله، مضيفا أنّ الاحتكار برز في المواد المدعمة مثل الدقيق والطحين وزيت الطهي.

ويرد وزير التجارة التونسي، محمد المسليني، على ما سبق بالقول: "وزارة التجارة تولت تزويد المناطق الريفية بمادتي الدقيق والطحين تحت إشراف قوات الجيش الوطني من أجل تأمين حراسة الشاحنات ومواقع التوزيع وحمايتها من التعرض لأي اعتداءات محتملة"، مضيفا أن فرق المراقبة الاقتصادية، بالتعاون مع السلطات المحلية والفرق الأمنية، قامت بمجهود مضاعف من أجل لجم ممارسات الاحتكار في مواد أساسية، مثل الدقيق وزيت الطهي.



ووفقا لبلاغ منشور على الموقع الرسمي لوزارة التجارة في 13 مايو الماضي، فإن فرق المراقبة الاقتصادية، سجلت 6877 مخالفة في التجاوزات السعرية والاحتكارية والتلاعب بالمواد المدعمة والإخلال بشفافية ونزاهة المعاملات، بعد أن قامت بـ 46823 عملية رقابية، خلال الفترة من 24 إبريل حتى 13 مايو الماضي. وتوزعت المحجوزات بين 223 طنا من الفارينة (الطحين)، و163.5 طنا من السميد، و 15.14 طنا من العجين الغذائي، و70 طنا من المواد العلفية، بالإضافة إلى 45.66 طنا من السكر المدعم، و42875 لتر زيت نباتي مدعم، و 31 طنا من المواد الغذائية المختلفة، و230 طنا خضار وغلال ولحوم وفقا للمصدر ذاته، والذي أشار إلى صدور 53 قرار منع من التزود بالمواد المدعمة، و24 قرار غلق محلات، إلى جانب 7 إيقافات للمخالفين.

لكن الخبير الاقتصادي سعيدان، يرى أن إيقاف بضعة أشخاص وحجز بضائع في المخازن ليس حلا معتبرا قائلا "هذه إجراءات عاجلة وليست حلا على المدى الطويل"، مضيفا أن الحل يكمن في تجهيز برنامج لإعادة إدماج الاقتصاد الموازي ضمن الدورة الاقتصادية، وهو ما يتطلب استقرارا وتخطيطا حكوميا مستقبليا.
 

خلل في مسالك التوزيع

يبدأ مسار الدقيق المدعم، من ديوان الحبوب (منشأة تابعة لوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، تعنى دون غيرها بالاتجار في الحبوب)، والذي يشتري الحبوب المحلية من الفلاحين ويحصل على المستوردة من الدولة وفق ما تقول المديرة العامة للصندوق العام للتعويض بوزارة التجارة، فضيلة الرابحي لـ"العربي الجديد"، مضيفة أن القنطار الواحد من الدقيق والذي يحتوي على 143.8 كيلو غرام، يتم شراؤه بمبلغ 100 دينار (35 دولارا)، قبل بيعه للمطاحن بسعر 27 دينارا (9 دولارت)، والقنطار من القمح اللين المستخرج من الطحين بـ 20  دينارا (7 دولارات) وهي أسعار مخفضة ومدعومة، إذ يصل الكيلو غرام من الدقيق للمستهلك بـ 450  مليما (الدينار 1000 مليم)، في حين أن كلفته الأصلية 1400 مليم كما تقول.

لكن كيف يحدث التلاعب؟ يجيب محمد الصادق جبنون، الخبير الاقتصادي والناطق الرسمي باسم حزب قلب تونس قائلا: "تتم قرصنة الدقيق خلال مسالك التوزيع، وتحديدا أثناء خروجه من المصنع، وصولا إلى تجار الجملة والتجزئة، ليستحوذ المحتكرون على الكميات المدعومة"، مضيفا أن مسالك التوزيع متشعبة وتضم أطرافا عديدة، بدءا من المصانع المنتجة للدقيق، وصولا إلى تجار الجملة والتجزئة.

ويعيد سعيدان سبب الخلل في مسالك التوزيع إلى ضعف رقابة مصالح الدولة وعجزها عن متابعة خروج المنتج من المصنع، كما يقول لـ"العربي الجديد".

ولتجاوز تلك المشكلة، لابد من تأهيل مسالك التوزيع للقضاء على ظاهرة الاحتكار، وتنظيم التوزيع بدءا من الإنتاج ثم باعة الجملة في الأسواق التي تشرف عليها البلديات والتي لابد من تطويرها، لتلعب دورا بين المنتج والمستهلك، لأن الخلل الحاصل في هذه المنظومة أدى إلى الاحتكار كما يقول وزير التجارة الأسبق، محسن حسن.
 

 
 



مرسوم حكومي لم يحدّ من الظاهرة

للحد من ظاهرة الاحتكار، أصدر رئيس الحكومة، إلياس الفخفاخ بناء على اقتراح وزير التجارة، في 17 إبريل الماضي المرسوم عدد 10 المتعلق بضبط أحكام خاصة لزجر مخالفة قواعد المنافسة والأسعار. وينص الفصل الأول منه على "ضبط العقوبات المنطبقة على مخالفة قواعد المنافسة والأسعار خلال الحجر الصحي الشامل والتي تمس أو من شأنها المساس بتأمين الحاجيات الأساسية للمستهلكين. ويقصد بمخالفة قواعد المنافسة والأسعار جميع الممارسات الاحتكارية أو المخلة بمبدأ شفافية الأسعار على معنى أحكام القانون عدد 36 لسنة 2015 المتعلّق بإعادة تنظيم المنافسة والأسعار".

ومع مراعاة أحكام الفصل 48 من القانون عدد 36، يعاقب من أجل الامتناع عن البيع أوالبيع المشروط بين المهنيين، وفقا للفصل الثاني من المرسوم عدد 10 "بخطية مالية قدرها 20 ألف دينار (7 آلاف دولار) إذا ارتكبت الممارسات في مراحل التوزيع، يضاف إليها ضعف قيمة البضائع المحجوزة، و50 ألف دينار (17515 دولارا) إذا ارتكبت الممارسات في مراحل الإنتاج أو التصنيع، يضاف إليها ضعف قيمة البضائع المحجوزة".

لكن المحامي المختص في القانون الدستوري، عبد المنعم السحباني، يؤكد على ضرورة أن تكون العقوبات في شكل قوانين لا مراسيم توضع بصفة ظرفية، وبالتالي يمكن الطعن فيها لاحقا، مشيرا إلى أن الردع في الظروف الاستثنائية بقرارات حكومية قد لا يحقق النتائج المرجوة، وبالتالي يجب العمل على جوانب أكثر شمولية في مقاومة الاحتكار، كما يقول لـ"العربي الجديد".

أمر قد لا يتحقق في ظل محدودية الإمكانات المادية والبشرية لأجهزة المراقبة الاقتصادية التي يؤمنها 600 عون موزعين على كامل تراب التونسي، ما يصعب من مهمتهم وفق ما يقول رئيس منظمة الدفاع المستهلك، مشددا على ضرورة تنفيذ الأحكام الجديدة على "البارونات الكبار" كما يصفهم، وضبطهم بالنجاعة والسرعة اللازمتين، على حد قوله.

وتنوي وزارة التجارة تمديد العمل بمقتضيات المرسوم 10 إلى ما بعد أزمة كورونا بعد عرضه على مجلس نواب الشعب من أجل المصادقة عليه كما يقول المسليني، مضيفا أن وزارته لن تقبل عروض الصلح مع المحتكرين، عملا بالفصل العاشر من المرسوم عدد 10 الذي نص على أنه "لا يجوز لوزير التجارة إبرام صلح في الجرائم الواردة بهذا المرسوم والمرتكبة خلال فترة الحجر الصحي الشامل".

ذات صلة

الصورة
افتتاح مركز سيفال الدوحة (العربي الجديد)

مجتمع

افتتح رئيس مجلس أمناء مركز حكم القانون ومكافحة الفساد علي بن فطيس المري، ورئيس الشبكة العالمية للمركز الدولي لتدريب الهيئات والقادة أليكس مخيا، في الدوحة، الأربعاء، المركز الدولي لتدريب الهيئات والقادة في الدوحة "سيفال الدوحة".
الصورة
 تونس في المرتبة السادسة عربيا على مؤشر مدركات الفساد

تحقيقات

يكشف تحقيق "العربي الجديد" كيف يتعرض المبلغون عن الفساد في تونس إلى اعتداءات متنوعة ومحاولات قتل، رغم أن بعضهم يحظى بقرارات حماية من هيئة المكافحة الوطنية، لكن إغلاقها في أغسطس الماضي بقرار رئاسي فاقم معاناتهم
الصورة
تحقيق تونس 1

تحقيقات

فوجئ العشريني التونسي أيمن السافي بشابين وامرأتين يطلبون منه الجلوس معه في منزله، لكن دهشته زادت بعدما وجد لديهم معلومات كاملة عنه ويطلبون منه التأثير على أهالي منطقته وإقناعهم بالتصويت لحزبهم في مقابل فرصة عمل
الصورة
الحراك الشعبي/ الجزائر

سياسة

فيما كشف اليوم الخميس عن التهم الموجهة إلى رئيسي الحكومة السابقين في الجزائر، أحمد أويحيى وعبد المالك سلال وثمانية وزراء سابقين، أنهى الرئيس الجزائري بالفترة الانتقالية، عبد القادر بن صالح، مهام كل من النائب العام، ومدير الديوان المركزي لمكافحة الفساد.