قبل أن يتفرّع عِلمُ وفن بناء المدينة، وقبل أن يصل التخطيطُ المناطقي والتصميم والمعماري في الغرب، إلى وضعه الراهن المعقّد والمتطوّر، كان على الغرب أن يمر بالكثير من التجارب المريرة والمتنوّعة في بناء المدن.
من المؤسف أن استخدام مبادئ تخطيط المدينة في بناء المدينة العربية، خلال العقدين الماضيين، لا وجود له إلا في حالات قليلة ونادرة ومعزولة. لقد نمت المدن العربية على نطاق واسع بعجلة، وتحوّلت إلى مجمعات مدنية غير عملية، وغالباً على النقيض من المفاهيم المعروفة والراسخة في نمو المدن. ولكن المدن العربية ليست الوحيدة التي بنيت خلال السنوات الماضية على هذه الشاكلة المأساوية، ففي غالبية البلدان الغربية لم يولد مبدأ تخطيط المدينة السليم ولم يطبّق إلا منذ وقت قريب نسبياً.
وفي مواجهة إهمال الإنسان للتخطيط السليم بعامة، وفي مواجهة إهمال العرب للتخطيط السليم خصوصاً خلال العقد الماضي، ممثلاً في بيروت وعمّان، تلوح أفكار ومقولات وآراء العربي المولود في تونس، عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي (1332-1405)، ليس بوصفها ذات أهمية شاملة وجوهرية فقط، ولكن لأنها تمتلك معنى عميقاً، إلى درجة أنه يمكن اعتبارها مساراً عالمياً شاملاً في تخطيط المدينة بالمعنى المعاصر.
وربما لم يتناول جوانب بناء المدينة ومشاكل الناس الذين يعيشون فيها، قبل ابن خلدون، سوى أرسطو وأفلاطون. وقبله، كان كل من اهتم بشأن المدن معنياً إما بالجانب العسكري أو الاستراتيجي، أما ابن خلدون فقد أدرك العناصر المتنوّعة التي هي شروطٌ لبناء المدينة.
كانت المدينة، بالنسبة له، الناس والمباني والحكم والهندسة والثقافة والمعمار والإدارة والاقتصاد، ولم تكن كائناً حياً ساكناً ذا بعدين أو ثلاثة أبعاد، بل كانت كائناً حياً متعدّد الأبعاد مع إضافة عنصرَي الزمن والفلسفة. ولأن ابن خلدون كان عربياً، من المؤسف أن يتخبّط العرب المعاصرون في تخطيط المدن، وأن يكون معروفاً لدى العالم الخارجي، في الماضي والحاضر، بقدراته الفكرية الشاملة، أفضل من معرفة العرب به. ولو تسنى لعرب اليوم دراسته وفهمه بصورة أفضل، ولو تم الانتباه لتحذيراته وتطوير نصائحه، ربما أمكن تجنّب الكثير من التخبّطات الخطرة التي يشهدها المرءُ ويحس بها في مشاهد تمدين عدد من المدن العربية، أو تم تلطيفها والتخفيف منها على الأقل.
تمتح آراء ابن خلدون المباشرة من ثروة معرفية ودراسية هائلة، ومن ملحوظات مرهفة مستمدة من رحلاته الواسعة في أرجاء الوطن العربي، وفي كل مكان حل فيه، في الأندلس أو تونس أو القاهرة، كان يشعر بأنه في وطنه. وعلى الرغم من أن الكثير من كتاباته موضع عناية أكاديمية بالدرجة الأولى في هذه الأيام، بوصفها تعكس اتجاهات وميول الفكر ذي الصلة بزمنه، إلا أن الكثير من ملحوظاته والنتائج التي يتوصل إليها، تحليلاً وتركيباً، لا يوجد ما هو أكثر معاصرة منه.
عدد المطلعين على أفكار ابن خلدون، سواء في تخطيط المدينة أو المعمار أو الهندسة، قليل. والسبب هو أن حقلاً واسعاً مثل تخطيط المدينة لم يصبح حقلاً معقداً يمتزج فيه الفن والعلم، فضلاً عن أن يصبح واحداً من علوم الاجتماع، إلا في السنوات الأخيرة نسبياً. وتحمل أفكاره حول هذا الموضوع نغمة معاصرة بشكل استثنائي وبارز، بحيث إن المرء يأخذه العجب ويتساءل كيف أنها لم تلفت نظر المخططين الاجتماعيين، ولماذا لم تلفت هذه الأفكار، ذات النغمة المعاصرة والفريدة في هذا المجال، نظر المؤرخين.
الكثير من محتويات "المقدّمة" التي كتبها في وقت قصير كتمهيد لكتاب التاريخ الشامل، قبل 600 عام، يمكن أن يُظن بسهولة أنه منتقى ومختار من الكتابات المعاصرة. يقول على سبيل المثال: ".. البناء واختطاط المنازل إنما هو من منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة.. وذلك متأخر عن البداوة ومنازعها، وأيضاً فالمدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير وهي موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التعاون".
وحين ينظر المرءُ إلى ما حدث خلال الخمس عشرة سنة الماضية من نشوء للمراكز المدنية كنتيجة لاكتشاف النفط في الجزيرة العربية، يمكن أن يدرك عمق المعنى الذي أوجزته هذه الكلمات. والملحوظة التالية ذات دلالة مهمة أيضاً: ".. اعلم أن المدن قرارٌ تتّخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدعة والسكون وتتجه إلى اتخاذ المنازل للقرار، ولما كان ذلك القرار والمأوى وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق إليها".
وإذا علمنا أن هذه الملحوظة تتضمّن، ربما لأول مرة في أدب التمدن، المفهوم المعاصر المسمى Zoning، أي التخطيط للاستخدام الأمثل للأرض، والذي يعني تقسيم المدن إلى مناطق كأداة من أدوات خطط التمدن، نذهل لرؤية العدد الكبير من المدن العربية التي بُنيت خلال السنوات العشر أو الخمس عشرة سنة الماضية، يناقض هذا المفهوم، مفهوم "إبعاد الأشياء الضارة عن المدن".
التخطيط من أجل الاستخدام الأمثل للأرض لم يظهر في أوروبا إلا خلال الثمانين عاماً الماضية. وليس قبل عام 1919، تم الإقرار لأول مرة بقانونية هذا المفهوم الأساسي والعمل به في ولاية نيويورك بعد سنوات عاصفة أمام المحاكم.
وحين ننظر اليوم إلى مدينة مثل بيروت، سنجد أنه، بعد ابن خلدون بستمائة عام، لا يوجد رأي عام قوي بما يكفي، ولا معرفة بكيفية التخطيط المدني الضروري، ولا سلطة تنفيذية فاعلة من أجل التصرّف وإبعاد الأشياء المؤذية عن الأحياء السكنية على الأقل.
قد يكون هذا النوع من استخدام الأرض وتقسيمها إلى مناطق، أداة تستخدم بالسلب للمصلحة العامة؛ فبأدوات التخطيط يتم منع تلك الاستخدامات للأرض التي تضر بالصحة العامة ورفاهية وأمان سكان المدن، ولكن ابن خلدون لم يتوقف عند الإجراءات السلبية، أي المنع فقط، وهي إجراءاتٌ سائدة تأخذ بها البلديات لحماية البيئة المدنية، بل يضيف ".. جلب المنافع وتسهيل المرافق لها" في المدن.
مثل هذه التعابير لم يكن لها ذكر إلى أن جاء الإنجليزي هاورد والاسكتلندي باتريك جيديس، وبدأت إشاعة تعابير مثل "المدينة الحديقة" و"وحدات الأحياء"، ومعها ألفاظ من قبيل "المنافع" و"المرافق" بوصفها تسهيلات وإجراءات تعتبر جزءاً من مظاهر التمدّن المعاصرة. والحق أن باتريك جيديس أدخل في كتابه "مدن مطوّرة" على تخطيط المدن عناصر علم الاجتماع الأساسية، وجاء كتابه هذا بعد تجربة واسعة له في الهند وفلسطين، حيث يمكن للمرء أن يتصوّر حدساً أنه تعرّف على أفكار ابن خلدون.
أمم تستغرق في معمارها
يتحدث ابن خلدون عن الزمن الطويل في أغلب الأحيان الذي يستغرقه بناء الهياكل والأعمال الكبرى التي هي من صنع الإنسان. ويُخبرنا المؤرخون أن بناء الأهرامات استغرق زمناً طويلاً، وكذلك استغرق بناء المساجد الرائعة في العالم الإسلامي، مثلها مثل كاتدرائيات أوروبا الفاتنة، أجيالاً قبل أن يكتمل. على سبيل المثال استغرق بناء كاتدرائية سان بيتر في روما عهد أكثرمن بابا.
في المقتطف التالي يعرّفنا ابن خلدون بعمل هندسي نفذه العرب غير معروف تقريباً: ".. في أن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة.. وانظر في ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب وأن الذي بناه سبا بن يشجب وساق إليه سبعين وادياً وعاقه الموت عن إتمامه فأتمه ملوك حمير من بعده".
ثم يلقي الضوء، بعد الانتقال إلى موضوع آخر، على جوانب ما يفترض أن يكون اليوم من اختصاص "إدارات البلدية". وهو مجال مُهمل بشكل عام في كثير من المراكز الحضرية العربية الراهنة.
فلنترك ابن خلدون يتحدّث بنفسه عن هذا المجال الحيوي من مجالات "المصالح العامة" حسب تعبيره: ".. أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلاً له، فيتخذ من الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين... وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقاً بل في ما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين".
لو أن لائحة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة "سرقت" أو استنسخت حرفياً بعضاً من آراء ابن خلدون هذه، وأنشأت أداة ضرورية لفرضها في مختلف أنحاء العالم، لما رأينا مشاهد مثل مشهد حمّال فقير أو عتال ضعيف يحمل على ظهره ثلاجة إلى الطابق السابع في بناية من بنايات بيروت، أو قرأنا عن مباني تنهار وتقتل محادثات السلام اليمنية: "أجواء بناءة" ولقاء لسفراء الـ18والانقلابيين، أو يصلنا همساً أن أساتذة في عمّان هم سبب الهالات السوداء حول عيون التلاميذ، أو أن اصحاب بقاليات يغشوننا، وكل هذه أمورٌ تحدث في كل مكان في العالم العربي، فالحكومات لم تضع حتى الآن معايير للسيطرة والتفتيش.
أمام البلديات العربية طريق طويل لكسب قبول وثقة المواطنين العرب إن كان لديها على قائمة موظفيها " مشرفي أسواق" مدربين جيداً وذوي كفاءة وغير فاسدين، ولكن حتى الآن، ما يتعلق بالتعليمات وتفتيش المباني والمفتشين، ما زال في غاية القدم وغامض مما يجعله بلا تأثير في الكثير من المدن العربية الحالية.
منذ وقت قريب فقط بدأ الكتاب بتصنيف المدن على أساس النمط والطبيعة والحجم، والإنخراط في دراسات مقارنة وعلائقية عن المدن أيضاً. أما ابن خلدون، فمثل أي اقتصادي وخبير في التمدن، ربط منذ ذلك الزمن البعيد بين أرقام اقتصاد التمدن وحجم التمدن. وبهذه الطريقة ربما يكون تنبأ بظهور مدن ذات كتل مدينية كبرى مثل طوكيو وباريس ولندن ونيويورك.. وغيرها. وفي هذا الصدد أصبح لدينا علماء اجتماع متنوعين يطرحون اليوم "صيغاً" و "بديهيات" و "مبادئ" و "نظريات" .. إلخ، تتعلق بالعلاقة بين اختطاط المدن وأنشطتها وحجم سكانها.
يقول ابن خلدون مثله مثل صاحب كرسي تعليم جامعي رفيع المستوى: " في ما يتعلق بالرخاء والأنشطة الإقتصادية تختلف المدن والبلدات بناءً على اختلاف حجم سكانها".
ومن هذا يمكن أن يستخلص المرءُ أو يستنتج أن ابن خلدون كتب هذا وفي ذهنه لوس أنجلوس. ألا تتنبأ هذه الفقرة بالإهتمام النشط في هذه الأيام بالتخطيط المناطقي؟
لقد نمت المدن في هذا الزمن كما يبدو لتغطية مساحات واسعة أيضاً. ونحن نعرف يقيناً أن بغداد الرشيد كانت ذات يوم عاصمة عالمية كبرى. ونرى اليوم أنه خلال المائة عام الماضية توسعت الكثير من المدن في مختلف أنحاء العالم إلى ما وراء حدودها لتصبح " فوق كل قياس".
وفي ضوء كل هذا يمكن لأي دارس لإبن خلدون دراسة جادة القول أنه امتلك ملحوظات عالم اجتماع عميقة، ولا تزال ملحوظاته التي يبلغ عمرها بضعة قرون صالحة للتطبيق والوفاء بحاجة مخططي المدن والمعماريين والمهندسين، وبخاصة في العالم العربي.
*مقتطف من كتيّب "المعمار الإنساني أولاً" الذي يصدر قريباً عن "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب" في الكويت
** ترجمة محمد الأسعد