ابتَعِد عن الصبي

13 ابريل 2015
في الحرب فقدت عائلات لبنانية كثيرة شبابها (فرانس برس)
+ الخط -
علمت أم عبد الله أن ابنها المراهق الذي يتمتّع بميلٍ واضحٍ نحو الشغب قد بدأ يتردّد على المركز الحزبي في المنطقة حيث يتجمّع الشبان لحمل السلاح. فابن عمّ ولدها هو المسؤول العسكري للمنطقة.

هالها الخبر الذي نقلوه إليها، هي التي تمكّنت حتى اللحظة من إبعاد جميع أبنائها الشبان، وكانوا سبعة، عن الانخراط في الحرب. هي مارونية وزوجها شيعي، وقد أحبّت أبناءها وأرادت لهم مستقبلاً يبعدهم عن الحرب الأهلية التي استعرت قبل سبع أو ثماني سنوات. صارت تدفعهم إلى السفر لتحصيل العلم واحداً بعد الآخر. الذين سافروا من بينهم صاروا اليوم أطباء ويحملون جنسيات أجنبية. شكرت من نقل إليها الخبر، معبّرةً عن امتنان واضح. قدّرت الخدمة.

عقدت شالها عند العنق ونزلت إلى حي اللجا، حيث يقع مركز التنظيم المسلّح. كانت صاحبة لسان سليط وقلب جريء وتعلم جيداً أن أي تردّد من قبلها قد يؤدي إلى خسائر لن تحتملها. طلبت من المسلّح أن ينادي مسؤوله، الذي هو ابن عم ولدها. خرج هذا الأخير مرتبكاً بعدما سمع الصراخ ليرحّب بزوجة عمّه. صبّت جام غضبها فوق رأسه. شعر بكثير الإحراج بين عناصره لكنّه ظلّ يجهد للحفاظ على ابتسامته. كان يحبّها ولو لم توافق على زواجه من ابنتها، وكان معتاداً على لسانها الجارح.

سألها عن طلبها، فأجابته بكلمات ثلاث: "ابتَعِد عن الصبي".
فَهِم ما جاءت من أجله، وقال: "على رأسي".

وبالفعل، لم يكذّب خبراً. عندما جاء ابن عمّه المراهق إلى المركز الحزبي طرده وطلب منه ألاّ يعود بعدها أبداً، فهو لا يريد مشاكل في العائلة.

دارت أيام الحرب. يقال إنها انتهت في أوائل التسعينيات، لكن شيئاً لم يؤكد ذلك. كَبُر المراهق وتزوّج وصار والداً لثلاثة أبناء. بكرهم فتاة باتت اليوم محامية.

أما ابن عمّه، المسؤول العسكري للمنطقة، فقد قُتِل بعد المواجهة مع زوجة عمّه بسنتين أو ثلاث في معركة عند منطقة المتحف ضد الجيش اللبناني "الذي كان مع الانعزاليين".

حزنوا كثيراً في جنازته وأطلقوا الرصاص الكثيف. وعدوا بالثأر له. حضر رئيس التنظيم شخصياً كي يعزّي العائلة به. حملوا ابنه الوحيد، وكان بعد طفلاً، واعدين أنفسهم بأن يعوّض بعضاً من الخسارة التي أصابتهم. بكى الطفل من دون أن يفهم شيئاً. ولاحقاً رفعوا له صورة كبيرة في المنطقة كتبوا عليها: الشهيد القائد (فلان الفلاني). وأنشأوا سبيلاً من الماء عن روحه.

لكن بعد فترة قصيرة، عيّنوا مسؤولاً حزبياً آخر للمنطقة. فوقت الأحزان في الحروب محدود.
المساهمون