ابتسمْ أنتَ حيْ

06 اغسطس 2015
أطلق القناص رصاصةً واحدةً اقشعرّ لدويّها بدني (Getty)
+ الخط -
قال لي صديقي الشاعر عبر "فيسبوك": أنا خائفٌ ادعُ لي، ثم انقطعتْ أخباره تحت وابل القذائف في حلب. أمي قالت: الحرب خسائر، أخذت منّي ابني، وتركتني لسيجارتي أنفثُ عبرَها أوجاعي، وهاهم صادروها، وجعلوا منها حُلماً، دعاةُ الله، فأين الله؟. وتتابعُ: أستغفرُ الله.


تقولُ حبيبتي المتزوجة: ابتسمْ أنتَ حي، ثمّ تختفي ملامحُها معَ أولِ قذيفةٍ تفتتحُ صباحَ حلب.

تغيرتْ ملامحُ الحياةِ، أصابتِ الحربُ علاقاتِ الناسِ بشرخٍ مرعبٍ، وجعلَتْ من الموتِ حدثاً عابراً، تشرب كأس الشايِ معهُ جرعةً واحدةً وتتابعُ ما تبقّى من حلقة برنامجكَ المفضل.

أفتحُ دفتر يومياتي (10/9/2013)، أكتبُ رسالةَ وداعٍ لأهلي، وأُصرّ على أن أدفنَ في قريةِ حبيبتي إن حدثَ ووجدوا جثتي، شرطَ ألا تزورَ أمي قبري بعد سجالٍ وشجارٍ طويل.

رتبتُ دفاتري وكتبي في خزانتي البسيطة، وحملتُ حقيبتي مُتّجهاً نحوها، حلب.
كنتُ كلّما دخلتها تذكرت أبي، ونحن في سيارة الدوج الصفراء، بقرب السائق أبو عمار الذي يرتدي نظارة سميكة وعلى رأسه كوفية، لكنّه يرتدي بنطالاً وقميصاً، يقولَ أبي مازحاً لحظة دخولها: "هذي حلب يا بسة بيعي زندك تعشي". يدغدغني ويضحك ضحكته الخالدة في رأسي.

لم يبصرْ أبي زندَ حلب المكسور، ولم يعرفْ أنّ عشاءَ البسّة أصبح جثةً متفسخة، ماتَ قبل الحربِ بأشهر، تركَ الحزنَ لي وحدي أغرقُ بهِ دون قشةِ أتشبثُ بها.

يقطع الميكرو مدينة الباب، بدأتِ المشاهد تأخذُ منحىً مختلفاً، أطفال يحملون السلاح المستبدّ، وجوهٌ تفوحُ منها رائحة الموت، وخوفٌ مُبطّن بالصمت. أنا مع الثورة لكنني لستُ مع الموت، الثورةُ حياة فلا تقتلوها مرتين.

نصلُ كراجات المنطقة الشرقية على دوار الحلوانية، مرّ أكثر من شهرٍ ونصف على قدومي الأخير، تغيّرت أشياء كثيرة خلالها، كثُرت الأنقاض، أتابع مسيرتي، أصل "معبر كراج الحجز" في بستان القصر، كُتب عنه ما يكفي لتأريخ مآسيه.

لم أكن خائفاً بدايةً، لكن عندما خطوت فيه الخطوة الأولى أطلق القناص رصاصةً واحدةً اقشعرّ لدويّها بدني، وفجأةً كفيلم "ماتريكس" اختفى آلاف العابرين من أمامي، وبدأ يتلوّن المكان بالأحمر، الأرض حمراء، الجدران والمباني حولي حمراء، السماء حمراء، الشمس التي تسقط من كوّةٍ صغيرة حمراء، تلاشت الأصوات من حولي، صوت واحد أسمعه واضحاً كصداه، صوت القناصة وهي تلفظ الرصاصة الفارغة وتردفُ مكانها أخرى ممتلئةً، من جهة مبنى الإذاعة، أستشعر بإشارة (+) تتمركزُ في منتصف رأسي، تذكرتُ أمي مباشرةً، ماذا لو ضُغِط على الزناد؟. ماذا لو قرأتْ أمي وصيتي؟

أمشي باتزانٍ لا يقبلُ التراجع، وحيداً مع احتمالات الحياة الضئيلةِ، وفجأةً أرى صورةَ حبيبتي وهي تنظرُ إليّ بانكسارٍ ثم تبتعدُ وكلّها خيبة، لكأنّها ذهبت لتضغط على زناد القناصة، لكأنها تريدُ أن تنال من قلبي الذي هجرَ قلبها لحزنه، تبتعد، فتظهرُ زوجتي وعلى وجهِها عتبٌ يكفي عمرين، فقد كذبتُ عليها قائلاً: أنا لا أحب سواكِ.

أصرخُ: أنا الآن فعلاً لا أحب سواك، لا تسمعني، تبتعد باتجاه الإذاعة، عرفتُ أنّها ستشاركُ هي أيضاً بالضغط على الزناد، أشعر بأن مسافة الخمسمئة متر، صارت خمسمئة كيلومتر، يتساقط العرق من جبيني، الشهيق والزفير حالةً مؤقتة، أرى محمد زين صديق عمري يبتعدُ، أرى أخي الذي لم أنجحْ بأن أصدَّ الرصاصَ عن عنقهِ فماتَ، أرى أخوتي الصغارَ الذين لم أستطعْ أن أعوضَهم عن فقدِ الأب، بدأ المعبر يزدحم بصورٍ كثيرة، أنا خائفٌ فعلاً، القناصة، حبيبتاي، وكلّ هذه الوجوهُ التي تظهرُ وتتلاشى، أركضُ لكنّ الاتزان يبديني ماشياً، العرقُ يغطي عدستي نظارتي، بصعوبةٍ أبصرُ وجهَ أمي تبتسم، أصرخُ: يما..يما.. زوري قبري واقرأي فاتحةً لخاتمتي، وليكن قبري عند قبرِ أبي وأخي، "آني أحبك يماا"، تتجه نحو مبنى الإذاعة دونَ أن أعرفَ هل سمعت أم لا، لكنّني عرفت أنّها ذهبت لتمنعهم من أن يطلقوا عليّ.

لأول مرة أتعرى أمام نفسي، كيف أفعل كلّ هذا، أعقُّ أمي وهي أمي، أكسر قلوب الآخرين، أعتادُ الفقد وأدعي الشجاعة والصدق وأنا جبان وكاذب؟
بصعوبةٍ أغتنم فرصة حضور أمي، أسرعُ أكثر، فجأة يبدأ الناس بالظهور أمامي ويتلاشى الأحمر، آلاف البشر يركضون يمشون، يصرخون، وأنا أركض، أمشي وأصرخُ حتى النهاية، أتنفس الصعداء.

في زمن الحرب لا يمكنك أن ترتب (أجندة) تمشي عليها أو تكتبُ بها حتى، كلّ شيء يصبحُ متوقعاً رغم استحالته، لا ثابت في زمن الحرب، لا ثابتَ، إلا الموت، فإن شعرتَ بشهيقٍ وزفيرٍ، فـ ابتسم، أنت حي.

(سورية)

المساهمون