ابتزاز أميركي... بالقانون

19 سبتمبر 2016
+ الخط -
أحال الكونغرس الأميركي إلى الرئيس باراك أوباما تشريعاً جديداً بعنوان "العدالة ضد رعاة الإرهاب"، يسمح بمقاضاة "الدول" التي يرتكب رعاياها جرائم إرهابية تضر بأمن الأميركيين، في خطوة تمثل تجسيداً جديداً لعقلية الكاوبوي الأميركي، وترجمة لمنطق الابتزاز وفرض الإرادة على شعوب العالم.
منذ تفجيرات "11 سبتمبر" في العام 2001، طبقت الولايات المتحدة سياسة استباق التهديدات بضرباتٍ وقائيةٍ، ومحاصرة مصادر التهديد المحتملة في أماكنها، بأدوات متنوعة أمنية ومعلوماتية وعسكرية أيضاً. حيث جرت عمليات احتجاز أفراد وتعذيبهم ونقلهم، تعتبرهم واشنطن "إرهابين محتملين"، بالتنسيق مع دول حليفة، كانت تشارك بالاستضافة أو الاحتجاز والاستجواب، أو بنقل المعتقلين من الولايات المتحدة إلى دولة ثالثة والعكس. وكانت واشنطن تفصل بين وضعية هؤلاء مجرد "أفراد" من ناحية وعلاقاتها وتعاونها الوثيق مع الدول التي يحملون جنسيتها، من ناحية أخرى. وبعد أن كانت الولايات المتحدة تنأى بنفسها عن الانضمام إلى المواثيق والآليات الجماعية الدولية التي تنظم الجهود الدولية في مواجهة عمليات العنف، وتلاحق مرتكبيها ومصادر تمويلها، صارت تشارك بفعاليةٍ، بل تقود تلك الجهود الدولية، وتحاول تطويع هذه الجهود بما يتوافق مع الرؤى والتقييمات الأميركية. فبعد أسابيع من وقوع تفجيرات سبتمبر، في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2001، صدّقت واشنطن على معاهدتين دوليتين. تتعلق الأولى بمنع "التفجيرات الإرهابية"، التزمت فيها 58 دولة بمحاكمة الأفراد الذين يفجرون شحناتٍ ناسفة في أماكن عامة. وتهدف الثانية إلى منع "تمويل الإرهاب"، تتعهد فيها 125 دولة بعدم تمويل أي أنشطة "إرهابية"، والتعاون في تحديد هوية الأموال المخصصة لأنشطةٍ كهذه، ومصادرتها وتجميدها.
وطوال السنوات التالية، كانت واشنطن توجه أدواتها العقابية إلى المشتبه بهم كأفراد بشخوصهم، حتى وإن لجأت في ذلك إلى إجراءات أحاديةٍ، من دون الرجوع إلى الدولة المعنية. ففي 19 إبريل/ نيسان 2002، أي بعد أشهر قليلة من تفجيرات سبتمبر، أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي تشريعاً يمنع دخول رعايا الدول التي تصنفها واشنطن ضمن راعية للإرهاب (كوبا وإيران وليبيا وسورية والسودان والعراق وكوريا الشمالية) إلا للهجرة. وكثيراً ما كان موقف واشنطن من الدولة ينعكس على مواطنيها، وليس العكس.
في الوقت نفسه، طالما مارست واشنطن سياسة التهديد والابتزاز تجاه حكومات الدول، وكانت التشريعات الداخلية الأميركية آليةً أساسيةً في هذا النمط من الابتزاز الدولي. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك، عندما أرادت واشنطن الضغط على دمشق لتغير سياستها تجاه لبنان، فأصدرت تشريعاً حمل عنوان "قانون محاسبة سورية". وهكذا، في كل الحالات التي تعاملت فيها واشنطن مع "دولة" بآلية قانونية أو تشريع داخلي، كان الدافع والغرض سياسياً لا قانونياً. وهو ما ينطبق بدقة على التشريع الجديد الذي يحاول الكونغرس تمريره، فتوقيته والعوار القانوني الذي يشوبه والمستجدّات الإقليمية التي سبقته عوامل تؤكد تسييسه. وتؤكد التجارب الأميركية السابقة أن التشريعات المُسيسة لا تطبق فوراً، وإنما يتم توظيفها للضغط على الدولة المستهدفة بالتدريج، بدءاً بتأجيل تصديق الرئيس، ثم تعليق التطبيق، وأخيراً الإنفاذ.
لذا، تتطلب المواجهة الفعالة لقانونٍ كهذا تعاطياً يتجاوز المقالات والانتقادات الإعلامية، ويقوم على تعبئة أوراق الضغط العربية (السعودية خصوصاً) والتلويح باستخدامها مع الاستعداد لذلك فعلياً. وبالفعل، يخشى البيت الأبيض التعرّض للمعاملة بالمثل، بأن يخضع مسؤولون ومواطنون أميركيون لأحكام تشريعات قضائية داخلية في دول أخرى. ما يؤكد أن العرب لا يعدمون أوراق وأدوات الرد على القانون الابتزازي الأميركي بما يبطل مفعوله، لكن توفر الأدوات والوسائل بلا جدوى، ما لم تتوفر قبلها النية وإرادة الفعل، لا القول.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.