إيقاع من بعيد

04 يناير 2017
(بيرجر، تصوير: جان مور)
+ الخط -

مي غوابو،
عندي ذكرى تعود إلى زمن طويل مضى. طويل، إلى درجة أنني لا أدري إن كانت تتعلّق بطفولتي، أم إن كانت ذكرى مما قد سمعته من الآخرين حين كنت طفلة. في بعض الأحيان، مي غوابو، تتساءل امرأتك المسنة إذا كانت جميع ذكريات الطفولة - وفي جزء كبير منها - هي مجرّد إشاعات؟ في الطفولة نتعلّم أشياءً كثيرة بسرعة كبيرة إلى درجة أننا قد ننسى من أين جاءت هذه المعلومة في البداية.

متى استوعبت معنى الموت لأول مرة؟ هل كان هذا من اكتشافي أو أن شخصاً ما كان قد حدّثني عنه؟ كيف عرفت أن المياه تتجه دائماً نحو الأسفل؟ اكتشفت ذلك لأول مرّة، بنفسي.

لديّ ذكرى حول شيء ما أودّ أن أشاركك إياه، ذكرى متعلقة بطريقة تصرّف خفيّة غير واضحة للنساء، وللرجال، وللمسنين، وللأطفال. ندرك هذا التصرّف بطريقة غامضة، فهو ليس بالشيء الذي نبحث عنه، وبسرعة كبيرة نتعامل معه كشيء مسلّم به.

راقبِ الأشجار، وانظر كيف تتحرّك في مهبّ الريح. راقب الحيوانات وكيف يذهب كل منها في طريقه بحذر وبكلّ استقلالية. تركض، تتمهّل، تحفر جحورها، وتطير، مثلها الأسماك وطريقتها في السباحة. أريد أن أجعلك تبتسم في الزنزانة رقم 73. تلك الابتسامة التي تبتسمها عندما تكتشف طريقة لتصليح شيء ما، ولكنك لم تتحقّق من فعاليّتها بعد؛ ابتسامتك نصف المحجوبة، تلك.

والآن، دعنا نتأمّل في حياة البشر؛ حياتهم العادية، في كل دقيقة، في كل يوم! إن حياتهم مبنيّة على توافق في الانتظام، والذي يساهم الجميع في إنجازه. والمحافظة على هذا الانتظام في الحياة هي الممارسة الخفية والمنسية التي أتحدّث عنها.

إنها الممارسة التي تفسّر وصول الفاكهة إلى السوق كلّ يوم، ووجود الإضاءة في الشوارع كل ليلة، والرسائل المندسة تحت الباب الأمامي، وأعواد الكبريت وترتيبها في اتجاه واحد في العلبة، والموسيقى التي نسمعها عبر المذياع، والابتسامات التي يتبادلها الغرباء. للانتظام إيقاع، إيقاع من بعيد، وفي أحيان كثيرة غير مسموع، ولكنه في الوقت ذاته شبيه بدقات القلب.

لا مكان للأوهام هنا. فالإيقاع لا يمنع العزلة، ولا يداوي الألم، ولا يمكنك أن تهاتفه. إنه، وببساطة، ما يذكّرك بأنك تنتمي إلى حكاية مشتركة.

واليوم، وفي حياتنا نجد أنفسنا محكومين بعدم انتظامٍ لا نهاية له. وجميع الذين يفرضون علينا ذلك، يخافون من عدم انتظامنا، ولهذا يقيمون أسواراً ليحافظوا على وجودنا خارجاً. ولكن، لا يمكن لأسوارهم أن تستمر في امتدادها، وسيكون هناك دائماً طرقٌ ومنافذ حولها، وفوقها، وتحتها.

إلى اللقاء قريباً.

لك دوماً،
عايدة


* مقطع من رواية "من عايدة إلى إكزافيه"، بترجمة تانيا تماري ناصر وفتحية السعودي، الدار العربية للعلوم 2010.

دلالات
المساهمون