يواصل ديفيد فوينكينوس، عبر روايته "إنّي أتعافى" هوايته الأثيرة في التقاط التفاصيل ونسج حكايات كبيرة منها، فالروائي الفرنسي الذي كتب إحدى عشرة رواية ناجحة خلال السنوات العشر الأخيرة، والذي يستقرّ منذ عمله الأول ضمن أكثر الكتّاب الفرنسيين مبيعاً، أصبحت له ملامح كتابية بارزة لا يخطئها كل من قرأ له. إنّه في كل مرة يختار موضوعاً طريفاً ينطلق منه بكوميديا سوداء إلى مساحة من التأمل تلامس الروح بعذوبة لا تخلو من مسحة حزن شفيفة.
تبدأ حكاية "إنّي أتعافى" التي نقلها إلى العربية محمود المقداد، من اللحظة التي يشعر بها بطل الرواية، الذي لا نعرف اسمه حتى النهاية، بألم مقلق في الظهر. ألم زاره للمرة الأولى من دون مقدمات على مائدة الطعام برفقة زوجته وصديقين. يعرف الرجل تماماً أنّه لم يبذل أيّ جهد بدني، وليس لديه تأريخ مع هذا الشعور، لتبدأ رحلة البحث المضنية عن التشخيص الصحيح مع خشية مفرطة من الوقوع في هوّة مرض خطير.
ينجح فوينكينوس في رسم حالة الرعب التي انتابت بطله جرّاء ألم الظهر المريب، فهو يغرق في تفاصيل زيارته الأولى للمشفى، تكبر عينه لتلاحظ كل شاردة وواردة من حوله. تارة يفسّر كل شيء لصالح التهوين من مصابه، وأخرى يرى الأشياء تتواطأ لتعزز من فكرة إصابته بمرض خطير. هرولته هذه بين القلق والطمأنينة جعلته ينظر للكادر الطبي بعين جديدة، قلقة أيضاً "قد أضيف إلى الخوف من النتيجة خجل صغير من أن أكون مريضاً سيئا، فكل مريض يرغب في أن يبرهن بطريقة مثيرة للشفقة بأنّه زبون جيد، حتى إنه يتفوّه أحياناً بقليل من الفكاهة، كي يعرض أبّهة مخادعة لاسترخائه".
وإمعاناً في إشغال القارئ بتفاصيل ألم الظهر وما يرافقه من قلق نفسي يُصدّر فوينكينوس فصول روايته بدرجة من درجات سلّم قياس شدّة الألم، فالفصل الثاني مثلاً يأتي على النحو التالي: شدّة الوجع: 6 الحالة المعنوية قلِق. بينما الفصل الرابع، شدّة الوجع: 6 الحالة المعنوية مشغول البال. والسادس، شدّة الوجع: 8 الحالة المعنوية جاهز للانتحار. ومع عدم تقديم الطب تفسيراً محدداً لحالته يلجأ بطل النص إلى الأطباء النفسيين والعرّافات دون جدوى.
لكن ذلك الإشغال لم يكن سوى حيلة لتمرير فكرة أكثر عمقاً وثباتاً من مجرد ألم في الظهر، فمع المضي قدماً في النص، تبدأ خيوط اللعبة في التكشّف شيئاً فشيئاً. نبدأ دون وعي في الانتقال من الاهتمام بالألم العضوي، إلى معاناة الرجل الحقيقية. معاناته في عمله، وفي بيته، وتعثّره بقائمة طويلة من الإحباطات "كنت موظفاً تحت الضغط، وليس في ذلك شيء غريب.
كنّا جيشاً ندع أنفسنا للقلق كي يجتاحنا. كل شيء كان يبدو منطقياً". بموازاة كل ذلك ثمة إحباط أكبر، إنّه الرغبة في كتابة رواية. حلم يراود البطل طوال عشرين عاماً، جمع من أجله كل الملاحظات والأفكار، كان يراه قريباً دون أن يتمكّن من امتلاكه. "إنّ ما كتبته إنما هو مسودة واسعة لرواية منتفخة بالصفحات وبصفحات الملاحظات، فإذا أعدتُ الشروع في الكتابة، فسأكون خاضعاً ثانية لخطر عدم الاكتمال".
حين يصل الألم إلى ذروته؛ في العمل والمنزل ومع الرواية المستحيلة، يأتي الفرج بشكل غير متوقع. فبمجرد أن يصفع مديره السيئ ويترك العمل يخفّ الألم كثيراً، هكذا دون مقدمات، وحين يلبّي طلب زوجته بالانفصال يخفّ أكثر، ويخفّ كذلك حين يقرّر التوقف عن مطاردة وهم كتابة الرواية، فيدرك العلاقة بين ألم الظهر وقائمة إحباطاته في الحياة. ثمة حياة يعيشها إذن لا تلائمه، بل هي حياة أخرى غير التي ينبغي عليه خوضها. هذه الفكرة التي تأتي بعد رحلة عذاب مضنية تكون مفتاح خلاصه. يبدأ من فوره في تصفية حساباته مع كل المنغصّات؛ الوالدين الذين لا يثقان به، أصدقاء الطفولة الأشرار، وفي مقابل ذلك يبدأ علاقة عاطفية جديدة يشعر معها بأنّه وجد ضالته، وأن قرار التوقف عن العيش دون سعادة يستجلب السعادة دون شك "إن المشكلة ليست في ظهري، وإنما حياتي، ووجع ظهري حصيلة لجميع العقد التي لم تُحلّ بعد".
وكما بدأت اللعبة عبر مؤشر قياس شدة الألم، تنتهي به. فبطل الرواية حين يتخلّص من عقده وإحباطاته، ومع حلول الفصول الأخيرة نجد المؤشر قد توقف عند الدرجة صفر، ما يعني زوال الألم كلياً، والحالة المعنوية: نحو المستقبل. "لم أستطع أن أعرف أصل الانحدار، ربما إلى الزمن الذي كنتُ فيه ضعيفاً فيزيائياً، عندما كانت حياتي ترهق أعصابي وجسمي. كل هذا أصبح الآن من الماضي".
(روائي إريتري)
تبدأ حكاية "إنّي أتعافى" التي نقلها إلى العربية محمود المقداد، من اللحظة التي يشعر بها بطل الرواية، الذي لا نعرف اسمه حتى النهاية، بألم مقلق في الظهر. ألم زاره للمرة الأولى من دون مقدمات على مائدة الطعام برفقة زوجته وصديقين. يعرف الرجل تماماً أنّه لم يبذل أيّ جهد بدني، وليس لديه تأريخ مع هذا الشعور، لتبدأ رحلة البحث المضنية عن التشخيص الصحيح مع خشية مفرطة من الوقوع في هوّة مرض خطير.
ينجح فوينكينوس في رسم حالة الرعب التي انتابت بطله جرّاء ألم الظهر المريب، فهو يغرق في تفاصيل زيارته الأولى للمشفى، تكبر عينه لتلاحظ كل شاردة وواردة من حوله. تارة يفسّر كل شيء لصالح التهوين من مصابه، وأخرى يرى الأشياء تتواطأ لتعزز من فكرة إصابته بمرض خطير. هرولته هذه بين القلق والطمأنينة جعلته ينظر للكادر الطبي بعين جديدة، قلقة أيضاً "قد أضيف إلى الخوف من النتيجة خجل صغير من أن أكون مريضاً سيئا، فكل مريض يرغب في أن يبرهن بطريقة مثيرة للشفقة بأنّه زبون جيد، حتى إنه يتفوّه أحياناً بقليل من الفكاهة، كي يعرض أبّهة مخادعة لاسترخائه".
وإمعاناً في إشغال القارئ بتفاصيل ألم الظهر وما يرافقه من قلق نفسي يُصدّر فوينكينوس فصول روايته بدرجة من درجات سلّم قياس شدّة الألم، فالفصل الثاني مثلاً يأتي على النحو التالي: شدّة الوجع: 6 الحالة المعنوية قلِق. بينما الفصل الرابع، شدّة الوجع: 6 الحالة المعنوية مشغول البال. والسادس، شدّة الوجع: 8 الحالة المعنوية جاهز للانتحار. ومع عدم تقديم الطب تفسيراً محدداً لحالته يلجأ بطل النص إلى الأطباء النفسيين والعرّافات دون جدوى.
لكن ذلك الإشغال لم يكن سوى حيلة لتمرير فكرة أكثر عمقاً وثباتاً من مجرد ألم في الظهر، فمع المضي قدماً في النص، تبدأ خيوط اللعبة في التكشّف شيئاً فشيئاً. نبدأ دون وعي في الانتقال من الاهتمام بالألم العضوي، إلى معاناة الرجل الحقيقية. معاناته في عمله، وفي بيته، وتعثّره بقائمة طويلة من الإحباطات "كنت موظفاً تحت الضغط، وليس في ذلك شيء غريب.
كنّا جيشاً ندع أنفسنا للقلق كي يجتاحنا. كل شيء كان يبدو منطقياً". بموازاة كل ذلك ثمة إحباط أكبر، إنّه الرغبة في كتابة رواية. حلم يراود البطل طوال عشرين عاماً، جمع من أجله كل الملاحظات والأفكار، كان يراه قريباً دون أن يتمكّن من امتلاكه. "إنّ ما كتبته إنما هو مسودة واسعة لرواية منتفخة بالصفحات وبصفحات الملاحظات، فإذا أعدتُ الشروع في الكتابة، فسأكون خاضعاً ثانية لخطر عدم الاكتمال".
حين يصل الألم إلى ذروته؛ في العمل والمنزل ومع الرواية المستحيلة، يأتي الفرج بشكل غير متوقع. فبمجرد أن يصفع مديره السيئ ويترك العمل يخفّ الألم كثيراً، هكذا دون مقدمات، وحين يلبّي طلب زوجته بالانفصال يخفّ أكثر، ويخفّ كذلك حين يقرّر التوقف عن مطاردة وهم كتابة الرواية، فيدرك العلاقة بين ألم الظهر وقائمة إحباطاته في الحياة. ثمة حياة يعيشها إذن لا تلائمه، بل هي حياة أخرى غير التي ينبغي عليه خوضها. هذه الفكرة التي تأتي بعد رحلة عذاب مضنية تكون مفتاح خلاصه. يبدأ من فوره في تصفية حساباته مع كل المنغصّات؛ الوالدين الذين لا يثقان به، أصدقاء الطفولة الأشرار، وفي مقابل ذلك يبدأ علاقة عاطفية جديدة يشعر معها بأنّه وجد ضالته، وأن قرار التوقف عن العيش دون سعادة يستجلب السعادة دون شك "إن المشكلة ليست في ظهري، وإنما حياتي، ووجع ظهري حصيلة لجميع العقد التي لم تُحلّ بعد".
وكما بدأت اللعبة عبر مؤشر قياس شدة الألم، تنتهي به. فبطل الرواية حين يتخلّص من عقده وإحباطاته، ومع حلول الفصول الأخيرة نجد المؤشر قد توقف عند الدرجة صفر، ما يعني زوال الألم كلياً، والحالة المعنوية: نحو المستقبل. "لم أستطع أن أعرف أصل الانحدار، ربما إلى الزمن الذي كنتُ فيه ضعيفاً فيزيائياً، عندما كانت حياتي ترهق أعصابي وجسمي. كل هذا أصبح الآن من الماضي".
(روائي إريتري)