إنها شجرة الزيتون السورية

01 أكتوبر 2015

مسلحون بين أشجار الزيتون في حلب (7مارس/2015/Getty)

+ الخط -
قال الشاعر الإغريقي سوفوكليس، على لسان بطله الشهير أوديب: "هناك شجرة، لا أعرف لها مثيلاً، تنمو فوق أرض آسيا. لا يمكن اقتلاعها، بينما تعود إلى الولادة من تلقاء نفسها. شجرة هي مصدر خوف لجيوش الأعداء، تنمو في هذه الأماكن أفضل من أي مكان آخر. إنها شجرة الزيتون ذات الأوراق البرّاقة، ومغذية لأطفالنا، الشجرة التي لا يستطيع أحد، لا شاب ولا شيخ، أن يدمّرها أو يخرّبها". لكن الحرب السورية الجبارة خرّبتها ودمرتها.
تفيد الوثائق المكتشفة في مملكة إيبلا قرب حلب، بين العامين 2600 و2240 قبل الميلاد، بأن أملاك الملك والملكة كانت مزروعة بأشجار الزيتون، وكان هناك 4000 جرة من زيت الزيتون للعائلة المالكة، و7000 جرة للشعب الذي لم يكن تعداده يتعدى الخمسة عشر فرداً، أي ما يعادل 700 طن. وبحسابٍ بسيط، نستنتج أن حصة الفرد الواحد أكثر من 46 كغ من الزيت الذي صار حلم كل مواطن سوري، صاغ حياته وعاداته وطرق عيشه وتغذيته على أساس الزيتون وزيته.
ليس ادعاءً أن نقول إن شجرة الزيتون أول ما وجدت في سورية، قبل أن تظهر في مواطنها الحالية، تمدّنا المكتشفات والحفريات الأركيولوجية بهذه الوثائق، وقد اكتشفت بذوره وشظاياه الخشبية في المقابر العائدة لسكان هذه المنطقة القدماء. كما حمل الفينيقيون، رواد البحار والتجارة، زيت الزيتون إلى الجزر اليونانية، عبر الأناضول منذ القرن السادس عشر قبل الميلاد. ومن سورية، انطلقت هذه الشجرة لتعم معظم بلدان حوض البحر المتوسط، وبعده غزت معظم مناطق العالم.
وبعدما كانت سورية الرائدة في إنتاج زيت الزيتون، وبلد المنشأ لشجرته الكريمة، صارت تحتل المركز السابع في العالم، هذا قبل الزلزال السوري. أما اليوم، فللزيتون حكاية أخرى، كما لزيتون فلسطين الذي تلاحقه آلة الحرب الإسرائيلية، مثلما تلاحق حياة الفلسطينيين بكل تجلياتها، فتقتلع أشجاره، وهو يعد من أهم الصادرات الفلسطينية، وأحد أهم ملامح الجغرافيا التاريخية لفلسطين، حتى إن اسم صيدا أو صيدون يعني بالفينيقية الزيتون.
في هذا الموسم من كل عام، ينشغل الناس في معظم سورية بموسم الزيتون، خصوصاً بعد تمدد
زراعته إلى باقي مناطقها، بعدما كانت مقتصرة على حلب وإدلب واللاذقية وطرطوس وحمص أيضاً، صار اليوم في درعا والسويداء والقنيطرة والمناطق الشرقية، فهو مصدر رزق ومعيشة لشريحة كبيرة من المزارعين، إذ تشكل شجرة الزيتون حوالى ثلثي الأشجار المثمرة في سورية. ولأن الحضارات الأولى ظهرت في هذه المنطقة، وكانت زراعية، فإن التعاطي مع الأرض والطبيعة صاغ ثقافتها وعاداتها وتراثها، فصار الزيت والزيتون يحملان دلالات عديدة، على علاقة حميمة بوجدان الناس وتفكيرهم، وضربت الأمثال الشعبية بهما. ليس غريباً أن يردّد الناس المثل: "خبزي وزيتي عمارة بيتي". أو بطريقة أخرى للمعنى نفسه: القمح والزيت عمار البيت.
وفي أيلول، تستفيق الميثولوجيا السورية التي صارت وشماً في الذاكرة، فـ "أيلول دبّاغ الزيتون"، وأيلول "ذيله مبلول". وهذا يعني أن علينا انتظار المطر، فيبدأ موسم الزيتون، ويباشر الفلاحون اقتلاع الأعشاب اليابسة وتحضير الأرض وتمهيدها تحت الشجرة، ليسهل على القاطفين جنيه، والتقليل من هدر الثمار وضياعها، ثم جني الثمار وفرزها عن الأوراق، وتعبئتها في أكياس كبيرة، وترحيلها إلى المعاصر التي يبدأ عملها مع بداية الموسم. لذلك، فإن التسرب من المدارس والتغيب عن الوظائف مألوفان في هذا الموسم، لأن العائلات تعمل، بكل أفرادها، في جني المحصول، وما يتبع ذلك من أعمال ملحقة، وتكثر الإصابات والحوادث الرضية التي كنا نستقبلها بكثافة في المشافي، بسبب السقوط عن الأشجار في أثناء القطاف.
هذا كان كما غنّت له فيروز "كان غير شكل الزيتون". أما اليوم، فقد تغيرت الصورة، فإذا كان القمح الركيزة الأساسية للطعام عند معظم الشعوب، وإحدى أهم الركائز الاقتصادية السورية، فهو تحت سيطرة تنظيم الدولة. أما الزيتون، الدعامة الأخرى للاقتصاد الحكومي والمنزلي، فيعاني من أزمة حقيقية. في الساحل، صار تأمين العمال في موسم الزيتون غاية في الصعوبة، لم يبقَ شباب للعمل، حصدت الحرب كثيرين منهم، والباقون ينتظرون في مواجهة الموت في قطعات الجيش التي يخدمون فيها، أما الحزن واليأس فهو ما يعم الأجواء الريفية الساحلية، والمآتم المتلاحقة هي النشاط الأبرز، وشوادر وخيم العزاء هي الأمكنة التي تجمع. أشجار الزيتون مصابة بالكآبة، مثل أصحابها، والأعشاب المتمردة والنباتات الحرجية تلتف على سيقان الزيتون، تتشبث بأغصانه، وتمتص نسغه، فتهرم الفروع البكر وتشيخ قبل أوانها، وتجفّ الثمار من نسغها، فتبدو مثل بذور العرجوم، حتى وهي عالقة على أغصانها.
وفي إدلب وحلب، هناك حكايات أخرى، إدلب التي غادرها ساكنوها باكراً في عمر الحراك السوري، ولم يطل الوقت حتى احتدمت فيها المعارك، واشتعلت الحروب، فأحرقت الكروم والحياة. وحلب اليوم تحترق بلهيب البارود والمدافع والبراميل، تجفّ آبارها، ويعطش ساكنوها وأشجارها.
أجدبت الحرب أرض سورية، مثلما أجدبت أرواح ساكنيها وكل مخلوقاتها، فالسوريون لا يزالون يعتمدون، في معيشتهم، على "المونة" التي يشكل الزيت والزيتون عمادها "الزيت عمود البيت"، لأن الزيت هو المادة الدهنية الأساسية في الطعام، وهي الضرورية للمكدوس الذي صار حلماً، وللزعتر الذي يشكل زوّادة التلميذ إلى المدرسة، صارت الأسرة السورية تحتاج إلى مرتب صاحب البيت، ثلاثة شهور أو أربعة، من أجل تأمين مؤونة الزيت والزيتون والمكدوس، عماد الأكل مع الخبز لدى الغالبية الساحقة للسوريين، بينما كان نصيب الفرد في مملكة إيبلا ما يقارب الغالونات الثلاثة.
صار الزيتون شبحاً، وخيالاً من الأخيلة التي تخبو، وصارت أفعال الحراك الزيتوني تتلاشى، كما حال بطل مسرحية "هذه المرة" لصموئيل بكيت التي أخرجتها ذات موسم زيتوني في عام 2000 الدكتورة حنان قصاب حسن، وعرضتها في معصرة زيتون قديمة في حي دمشقي. كانت عن شخص كبير في السن، في لحظة بوح وتداع لذكريات ماضيه وحياته، عبر ثلاث شخصيات، هي أصوات للشخصية الأساسية، تستحضر أزمنة ومواقف، فتصطدم الأصوات فيما بينها، لكنها تكشف جميعها عن خواء الشخص وعزلته، وينتهي العرض بصوت يقول: من أتى، من ذهب، بالكاد أتى.. بالكاد ذهب. لا أحد أتى.. لا أحد ذهب.
ليس هذا فقط، بل إن الحمام الذي يطبق بمنقاره على غصن زيتون، رمز السلام في هذه الأرض، غادر السماء، بعدما أصبحت منطلقاً للبراميل المتفجرة، وعندما لاذ بالأرض، اصطادته القذائف والشظايا مع الأرواح التي تقنص، فاختفى الحمام من دون أن يترك خلفه أثراً يُقتفى. علينا ألاّ نصاب بالذهول، إذا وصل ترتيب سورية إلى المرتبة السبعين في إنتاج الزيتون، فهي تحتل المرتبة الأولى عالمياً في إنتاج الموت.