إميلي جاسر.. الكثير من فلسطين

18 يناير 2015
من "مطار اللد"، عمل فيديو إنشائي (الصورة: جيسون مانديلا)
+ الخط -

بين مسافتين مجازيتين للنجمة: إحداهما ضوئية، والأخرى تتطابق مع الدرجة صفر للبصر، فَردت الفنانة الفلسطينية إميلي جاسر (1970) منجزها الفني الذي حقّقته على مدار 15 عاماً، في أرجاء مساحات "دارة الفنون" في عمّان. منجزٌ عنوانه جملة شعرية، "نجمةٌ بعيدةٌ بُعد النّظر عن عيني، وقريبةٌ قرب العين منّي"، اقتبستها من قصيدة ألقاها الشاعر الأميركي غريغوري كورسو أمامها حين كانت تعيش في روما.

النجمة في المسافتين لا تخرج عن مرمى العين؛ سواءً التمع بريقها في الذاكرة القصيّة التي استدرجتها الفنانة إلى تفاصيل الراهن والمعيش، أم ثوى البريق نفسه تحت إطباقة الجفن، قبل أن يبزغ في معرضها - المتواصل حتى 23 نيسان/ أبريل 2015 - عن صور ومداخلات بصرية وسمعية متنوعة، شكّلت نسيج جملتها التعبيرية.

جملة تتقاطع خيوطها ومفرداتها مع سِجّلات الذاكرة ومدوناتها التي لا تُخاتل الواقع، ولا تُحابي الوهم المُقيم تحت مظلة الأساطير. جملة لا تخرج أيضاً عن طموحها للاقتران بـ "النجمة" لجهة تبديد الظلمة، وتِبْيان الطريق.

مساحات "الدارة" وبيوتها التراثية التي تعتلي جبل اللويبدة وسط عمّان منذ نحو مائة عام، غطّتها مجموعة واسعة ومختارة من أعمال جاسر. الفنانة الحائزة على العديد من الجوائز العالمية، من بينها جائزة "الأسد الذهبي" في "بينالي البندقية" الثاني والخمسين (2007)، تذهب في أعمال معرضها، إلى تتبّع التعقيدات والتوتّرات المصاحبة للتحولّات الاجتماعية والسياسية.

وتُعاين في جلّ أعمالها التي تنحاز إلى مفاهيم وانشغالات "فنون ما بعد الحداثة"، الحكايات التاريخية المهمّشة، لتعيد الاعتبار إلى العديد من الموضوعات التي تتوارى خلف واجهة الحدث؛ بفعل سلطة الخطابات المخاتلة للواقع، وسطوة أدواتها المادية والرمزية على الفضاء العام للمجتمعات.

في لوحتها الجدارية اللافتة بتقنيتها ولونها الأحادي، تسترجع من ذاكرتها الشخصية أجساد النساء في مجلة Vogue التي كانت تُغطَّى أجزاء منها باللون الأسود ليُسمح لها بالعبور إلى بعض البلدان العربية: "كانت والدتي، وأنا في صحبتها في مُقتبل عمري، تقوم على متن الطائرة بتظليل أجزاء من أجساد النساء كي تتمكن بالعبور بها إلى تلك البلدان التي ترى في المرأة عورة مجسّدة". ومن تقاطع المساحات السوداء والبيضاء على سطح الجدارية، تُعيد الفنانة إنشاء مقطع من جداريتها بين مساحتين متناقضتين في عُهدة السلطة: تسليع جسد المرأة وحجبه في آن.

ومن الذاكرة الشخصية، تذهب جاسر إلى تتبع ظواهر وأحداث تنتمي إلى الذاكرة الجمعيّة للشعب الفلسطيني، خصوصاً في صراعه مع المشروع الصهيوني الذي يعمل على منهجة إقصاء الوجود الفلسطيني خارج حدود الذاكرة والتاريخ.

إحدى قاعات العرض استأثرت بتخليد ذكرى ما يقارب 30 ألف كتاب نهبتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي من منازل ومكتبات ومؤسّسات فلسطينيّة عام 1948، بعضها يعود إلى القرن السابع عشر. احتوت القاعة عشرات الصور المنتقاة من أغلفة الكتب المنهوبة التي حملت صفحاتها الأولى معلومات بخط اليد توثّق الإهداءات، وأسماء المقتنين وسنة الاقتناء، تفنيداً للمزاعم الإسرائيلية التي تروّج أن "ملكية الكتب لا تعود إلى الفلسطينيين".

من عمل الفنانة حول الكتب الفلسطينية المنهوبة عام 1948


لا تتوقف جاسر عند الذاكرة البصرية ومروياتها السياسية والاجتماعية فقط، بل تسحب زائر معرضها، في تجربتها السمعية "تكسي من باب العامود إلى المدن العربية"، إلى النصف الأول من القرن الماضي، حيث كان باب العامود في القدس مركزاً رئيسياً للمواصلات بين بلاد الشام والعراق.

وبالاعتماد على فن التركيب الصوتي والمؤثرات السمعية والإيحائية، تستحضر مع أصوات سائقي السيارات، صورة المكان. وحين أتيح لها سابقاً عرض التجربة نفسها في باب العامود، لمست عن قرب "رجع الصدى" ووقْعه على الناس: "كانت مُكبّرات الصوت موزعة في المكان الذي كان ينطلق منه السرفيس، وحين كان يتناهى إلى أسماع الناس، خصوصاً كبار السن منهم، أصوات سائقي السيارات وهم ينادون: بيروت، الشام، عمّان، بغداد؛ سرعان ما كانوا يستعيدون مؤثثات المكان، ويسترجعون تفاصيله، وكأنها وشمٌ في الذاكرة والوجدان".

لا تتردد جاسر في وصف معرضها "نجمةٌ بعيدةٌ بعد النّظر عن عيني، وقريبةٌ قرب العين منّي" بـ أهم معرض في حياتها "من حيث شموليته وتنوّعه، ومساحة التواصل الواسعة مع الجمهور والفنانين التي أتاحتها إقامته في عمّان، خاصة الذين حضروا من العالم العربي وفلسطين".

تعكس توجهات الفنانة وتنوّع وسائطها الفنيّة طريقتها في التعامل مع الأفكار والحكايات والأحداث التي تتعرض للتهميش والإقصاء. وحين تستدعي موضوعاتها وتتحرك معها تحت دوائر الضوء، لا تكتفي بنفض غُبار الإهمال والنسيان اللذين غمراها بفعل ممارسات الهيمنة، بل تضعها في سياقات فنية جديدة تعيد لها الاعتبار، وتجعل من حضورها بريقاً في مرمى العين والقلب.

المساهمون