إلهاء السوريين عن الموت

26 اغسطس 2016
+ الخط -
ليست تقنية الإلهاء جديدةً على اللعبة السياسية، وقد مارسها الحكام عبر التاريخ، قبل أن يتم توصيفها وتصنيفها ووضع قواعدها، ثم إعلان ذلك كله على الملأ في القرن العشرين.
ولعل أكثر قضية سياسية تم فيها التلاعب بعقول الناس باستخدام تقنية الإلهاء هي القضية السورية، فمنذ انطلاق الثورة السورية قبل خمس سنوات ونيف، لم يتوقف العالم عن الخروج بأفكار جديدة، واقتراحات ووعود ومبادرات ومشاريع، كانت كلها تذهب أدراج الريح، بعد أن تكون قد تذهب بأرواح بعض السوريين، وبعقول معظمهم، والعالم الذي نقصده بتفريخ الأفكار، هو القوى الكبرى والمجتمع الدولي، والمنظمة الدولية، وبمراجعةٍ هادئةٍ لحجم وعدد الأفكار التي أطلقت وشغلت الناس، طوال السنوات الخمس، نكتشف حجم الخديعة التي تعرّضنا لها، وعدد المرات التي سقطنا فيها في الحفرة نفسها، من دون أن ننتبه، وفي كل مرة كنا نكرّر المسار نفسه، فنتحمس ونبدي المواقف والآراء، بعضنا يقف مع الفكرة، وبعضنا ضدها، تنشغل مواقع التواصل الاجتماعي بمواقف منطقية وغير منطقية، مواقف محمولة على مشاعر وطنية، وأخرى على مشاعر ضيقة، ثم تفرّد الصحف والفضائيات مساحاتها لآراء المحللين والكتاب والسياسيين لتبدو آراؤهم المتناقضة حول الموضوع المطروح، حتى يتلاشى الأمر برمته، ونعود إلى نقطة الصفر، لنتلقى فكرةً جديدةً لنكرّر التجربة من جديد.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعدّ وتحصى، فمنذ أول اقتراحٍ لتشكيل حكومة وحدة وطنية في عام 2011، والتي تم تداول اسم هيثم مناع، لرئاستها في ذلك الوقت، حتى تشكيل المجلس الوطني، وقبله هيئة التنسيق، وحتى الأسابيع الأخيرة التي يتم فيها الحديث عن مجلس عسكري مشترك، مرّت مئات الأفكار والمبادرات والاجتماعات والمؤتمرات التي أوحت كل واحدةٍ منها بأن نهاية الحرب السورية باتت قاب قوسين، وانتهت جميعاً إلى نتيجةٍ واحدة، هي اللاشيء.
والفكرة الأخيرة التي يتم تداولها الآن، وهي فكرة المجلس العسكري المشترك تم بثها بطريقة توحي بجديتها، وباختلافها عن سابقاتها، فقد تم الإيحاء بأن هذه الفكرة هي حصيلة حوارات طويلة بين الروس والأميركان، وأنها دعمت باتفاق بين الروس والأتراك، وبالتنسيق مع الإيرانيين، وتم منحها مسحة إضافية من الجدية بتسريب تفاصيل عنها تبدو قابلةً للتصديق، مثل أن رئاسة المجلس العسكري ستكون لشخصية من النظام، وإنها ستضم، في عضويتها، ضباطاً منشقين، وقياديين في الجيش الحر، وكذلك ضباطاً متقاعدين، يمكن اعتبارهم محايدين، وأن هذا المجلس سيكون العمود الأساسي لضمان المبادئ العليا لحل الأزمة السورية، ومنها الحفاظ على سورية موحدة وعلمانية، والحرص على عدم انهيار مؤسسات الدولة، ومنها الجيش، وقد تضمن تسريب الخطة معلوماتٍ عن ولادتها تزيد من قابلية تصديقها، من قبيل أن بوتين كلف المخابرات الروسية ووزارة الدفاع اختبار الخطة واختيار الشخصيات المناسبة للمشاركة في هذا المجلس العسكري، والسير في خطوات تنفيذها، وأنه تولى بنفسه إقناع الأميركان والأتراك والإيرانيين بالموافقة عليها والمساعدة في تنفيذها.
ونقلت صحف عن مسؤولين في وزارة الدفاع والاستخبارات الروسية أنها (أي وزارة الدفاع) بدأت جس نبض شخصيات في الجيش السوري النظامي، وفي "الجيش الحر"، لاحتمال تشكيل مجلس عسكري. كما طرحت الفكرة وراء الأبواب مع ضباط سوريين متقاعدين. كان الحديث بداية عن حوالى 70 عضواً، لكن بات الحديث يتناول بين 42 و45 عضواً بقيادة ضابط من الجيش النظامي على أن يضم ضباطاً منشقين في غالبية أعضائه، خصوصاً من الضباط رفيعي المستوى الذين لم ينخرطوا في العمل العسكري المباشر في السنوات الماضية، ويقيمون في دول مجاورة أو خليجية.
طبعاً التسريبات حول هذه الخطة تشبه إلى حد كبير الفكرة التي سبقتها مباشرةً، وهي مبادرة تعيين خمسة نواب للأسد، لإدارة المرحلة الانتقالية، والشبه بينهما بدأ من التسريب، ثم تغيير في بعض التفاصيل للإيحاء بجدية الطرح، ففي موضوع النواب تم الحديث عن خمسة نواب، ثم عن أربعة، ثم عن ثلاثة، قبل أن يستقر الطرح على خمسة، ثم يتلاشى الموضوع نهائياً، ويذهب أدراج النسيان. والآن، تم الحديث عن 71 شخصية عسكرية، ثم عن أربعين ثم عن 33، وتنوعت التفاصيل بين كلام عن نظام وفصائل مسلحة، وبين نظام وضباط منشقين، وبين نظام ومنشقين وضباط متقاعدين.
هي بضعة أيام، وستنتهي هذه الفكرة في الهواء، كما انتهت كل فكرة قبلها، وستنجح في أداء وظيفتها، كما نجحت كل مرة سابقة في إلهائنا.
A78EE536-6120-47B0-B892-5D3084701D47
علا عباس

كاتبة وإعلامية سورية