إعلام يكلم نفسه

23 نوفمبر 2015
+ الخط -
سقطت الحواجز بين الدول والشعوب، وصارت القضايا والمشكلات الداخلية معولمة بامتياز. ولا تزال أغلب وسائل الإعلام العربية تتوهم أسواراً حول شعوبها، وتفكر بعقلية أحادية منغلقة على نفسها. لا تدرك أن ثمة جمهوراً آخر غير محلي، مختلف في الثقافة، فضلاً عن اللغة والإدراك. وتجهل، أو تتجاهل، وجود إعلام عالمي يملك أدوات النفاذية والانتشار، لا يمكن حجبه، ولا يخضع للسيادة أو الرقابة. فبات الإعلام العربي غريباً معزولاً، كلما جمع بين العرب وغيرهم حدث أو مشكلة أو سياق واحد.
تبدّى هذا الخلل في سقوط الطائرة الروسية في سيناء، ثم هجمات باريس الكارثية على وضعية العرب والمسلمين في الغرب وفي أوطانهم. وهو خلل جوهري قائم من قبل، وتجسد خلال السنوات الماضية في حالات كثيرة. أزمة الرسوم المسيئة للرسول، وقبلها تفجيرات مدريد ثم لندن، رجوعاً إلى تفجيرات "11 سبتمبر". من تلك الوقائع، وحتى أزمات الأسابيع القليلة الماضية وأحداثها، الخطاب العربي محلي المضمون، بدائي الأسلوب، مختل المنطق.
في سياق الدفاع عن الإسلام والرسول، تلخص المضمون في رفض المساس بقدسية الإسلام ورسوله، واقتصر الأسلوب على تظاهرات شعبية وحملات إعلامية في وسائل الإعلام المحلية، بمنطق أن "الإسلام ديننا ومحمد رسولنا وهذه مقدساتنا". وفي الأحداث الأخيرة، جمع الموقف العربي بين نقيضين، يصعب على أي غربي، وربما أي عاقل فهم اجتماعهما معاً: تأكيد أن ما جرى هو بالضبط العنف والإرهاب الذي طالما حذّر المسؤولون العرب منه. وإنكار أن يد العنف التي طاولت قلب باريس، واخترقت أرض سيناء وأجواءها، هي نفسها التي يعتبرها الغرب عينة ممثلة للإسلام والمسلمين. لذا، كان الارتباك واضحاً على تناول وسائل الإعلام العربية هجمات باريس. ثم تحول الارتباك إلى تعتيم وصمت عن ردود الفعل السلبية التي بدأت تظهر في بعض الدول الأوروبية. حيث تعرضت مساجد لمداهمات أمنية، ويواجه المسلمون مضايقاتٍ وتربصاً رسمياً وشعبياً. وعجز الإعلام العربي عن تبني موقف محدد من تلك الممارسات، هل هي مبالغات غير مبرّرة وتعميم ظالم للإسلام والمسلمين؟ أم رد فعل طبيعي ومقبول، نظراً لأن معظم من يمارسون العنف مسلمون، وإن كانوا أوروبيين؟
لم تكن أزمة الإعلام العربي هنا في كيفية تلقي الغرب وإدراكه الخطاب العربي، أياً كان اتجاهه. وإنما في مخاطبة الداخل العربي، المتلقي الأساسي للخطاب العربي الرسمي أحياناً والإعلامي دائماً. فكان المأزق بين إنكار الاتهامات الغربية بالمطلق، ما يناقض هستيريا التخويف الإعلامي والرسمي من الإرهاب الذي يشترك الإعلام العربي مع الغربي في اعتباره إسلامياً دائماً وحصرياً. أو قبولها، ولو جزئياً، أي إقرار بأن كل مسلم إرهابي محتمل، ما لا يمكن تسويقه داخلياً.
الأمر أكثر وضوحاً في قضية الطائرة الروسية، حيث الإصرار المصري على خطاب "انتظار نتائج التحقيقات"، على الرغم من إعلان روسيا النتائج من جانبها رسمياً، واكتظاظ الإعلام الأجنبي (الغربي والروسي معاً) بكم هائل من التسريبات والمعلومات والاستقصاءات الصحافية، كلها تشير إلى النتيجة نفسها التي أعلنتها موسكو رسمياً. كأن المصريين والعرب الذين كانوا يتابعون حصرياً "صوت العرب" في الستينيات، و"الأهرام" في السبعينيات، ثم "القناة الأولى" في الثمانينيات و"الفضائية المصرية" في التسعينيات. لم يظهر من بينهم من يطالع إعلام العالم، ويفهم لغته ويفكر بمنطقه. كأن لا فضائيات عالمية، ولا أخبار لحظية عبر الإنترنت، ولا صفحات تواصل مع أقصى بقاع الأرض.
إعلام لا يخاطب الخارج، ويستخف بالداخل. يكلم نفسه، ولا يسمع سوى صوته، كما لو كان وحده على ظهر الكوكب. يكذب كما يتنفس، ويطلب من العالم أن يصدّقه.







58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.