11 نوفمبر 2024
إسطنبول أيضاً وأيضاً
وأنت تتجوّلين في إسطنبول متخفّفةً من خيباتٍ كثيرة، مانحةً روحك فسحتها الضرورية للخلاص من عتمةٍ غاشمةٍ، حاولت التسلل إليها، وسلب شمسها التي تحرصين عليها جليةً ناصعةً لا يعتريها كسوف، تتركين صخب الساحة الكبيرة بأفواج سيّاحها وشروحات أدلّائها وباعتها المتجولين الذين يلعبون على وتر إحساسك بالبرد، فيبالغون بتزيين عرباتهم المحمّلة بعرانيس الذرة وحبّات الكستناء المنفلقة من فرط السخونة، وكعك السميط الطازج المكدّس، زهيد الثمن، تتلقفه أيدي الراكضين إلى أعمالهم على عجل، تتقافز الحمائم والغربان من حولها، سعيا إلى التقاط فتاتٍ متناثر. تخلفين المقاهي والمطاعم، ودعوات صبيان محلات التحف، إلى التقاط صور سخيفة، ترتدي النساء فيها زي السلطانة، في استثمار ذكي لمسلسل "حريم السلطان" الذي ألهب مخيلات العرب، وجعل مقامي السلطان سليمان القانوني وزوجته الفاتنة خرم، الجارية التي أصبحت سلطانة خرم في السليمانية، من أهم وجهاتهم المنشودة.
تتركين صخب ذلك المهرجان الدائر على امتداد اليوم، وتأخذك قدماك باتجاه أماكن لا تثير شهيّة السياح في العادة، تجرّك الخطى إلى أزقةٍ خلفيةٍ متداخلةٍ، تعبرينها متمهلةً، وصولا إلى شاطئ مطل على بحر مرمرة. تسحرك تلك الأزقة الضيقة المتعرّجة المفروشة بالحصى، متأملةً البيوت العتيقة البسيطة المتلاصقة، منبهرةً بمقدار الأناقة التي تميّز شرفاتها الصغيرة، المكتظة بأصص نباتات الزينة، الخبّيزة، الجوري، القرنفل الجهنمية، أو المجنونة كما يسمونها في بلاد الشام، في استعارة بليغة بسببٍ من انفلاتها غير المدروس، متعربشا الجدران في هجمةٍ خلابةٍ لخليط ألوان، تتراوح بين الليليكي والأرجواني والأبيض والوردي الأخاذ، حين تختبرين تجربةً جماليةً كهذه.
قد يغدو مشروعاً أن تأكل الغيرة قلبكِ برهةً وجيزةً، لأنك مجرّد عابرةٍ لن تترك أثرا، مسموح لك استنشاق ذلك العبق الغامض لرائحة أزمنةٍ غابرةٍ، وأنت مدركة أنه محظور عليك التعلق، لأنك بصدد فراق وشيك. قد تتكئين على جدار مسجد الحي الصغير، محاولةً التقاط أنفاسك التي تلاحقت بفعل المشي ساعاتٍ طويلةً بلا توقف، فتسأل عن حالك سيدةً لعلها تجاوزت السبعين من عمرها بقليل، وهي تجرّ عربةً صغيرةً مليئةً بالبقالة، بلغةٍ تركيةٍ تستطيعين استنتاج فحواها، فتشكرينها، وتشرحين، بلغة الإشارة، مستعينة ببضع مفرداتٍ تركيةٍ تمكّنت من التقاطها، أنك تأخذين استراحةً صغيرة. تغيب السيدة اللطيفة خلف باب بيتٍ صغير، تسترقين النظر من فتحةٍ في الجدار، لتكتشفي أن باب البيت يؤدي إلى حوشٍ صغير، تتوسّطه شجرة زيتون، تتوزّع فيه ثلاث حجراتٍ تطلّ نوافذها المجللة بستائر بيضاء منسوجة بإتقانٍ على الحوش الذي تفوح منه رائحة النعناع. ولا تدركين سبب الحزن الذي غمر قلبك في تلك اللحظة على نحو مفاجئ. لعلك تذكرتِ أغنية فيروز "بيتك يا ستّي الختيارة بيذكّرني ببيت ستّي"، أم أنه حقا كان يشبه بيت جدتك، وتجزمين بأن هناك فرقا بين الحوشين، لأن الشجرة التي توسطت بيت جدّتك كانت سروةً عملاقةً، قررت العائلة قطعها فيما بعد، بحجةٍ واهيةٍ لم تفهميها بعد.
ولسببٍ لا يعلمه سوى الله، تقرّر روحك الحمقاء أن الوقت مناسبٌ للتفجّع على شجرتك المفقودة قبل عقود مضت، فتبدين امرأةً حزينةً مشوّشةً، وأنت تسيرين بتثاقلٍ في ذلك الزقاق الإسطنبولي البعيد. ولا تقاومين انهمار دموعك المباغت. تبكين مثل طفلٍ أدركه اليتم، تعبرين الأزقة بسرعةٍ أكبر، محاولة التماسك. تصلين إلى الشارع الرئيسي، تقطعينه إلى الجهة المقابلة. تقتربين من الشاطئ الصخري. يروق لك مشهد نادل المطعم المتخصص بأصناف السمك، يرمي بقايا الأطباق للنوارس التي انقضت دفعةً واحدةً، تلتهم بامتنان ذلك الرزق الوفير. تجلسين في مقابل بحر مرمرة، تتأملين السفن بغبطةٍ. تبتاعين من بائع متجول قبعةً صوفيةً أنت لست بحاجة إليها، تواصلين المسير بمحاذاة الشاطئ، تتوقفين بالقرب من صيادين رموا صنّارتهم في البحر. يدعونك إلى كأس شاي ساخن، تخجلين من الاعتراف أنك لست من محبي الشاي، ترتشفينه على مهل، تجيبين على سؤالهم من أي البلاد أنت. يقول أحدهم وكأنه يذيع: بلادكم كانت أراضي عثمانية أيتها السيدة. تضحكين في سرّك، وتهمسين: ليت ذلك الرجل المريض الذي درسنا قصته في كتب التاريخ المقرّرة تعافى في الوقت المناسب، لكان السيناريو اختلف كليا، ولكنت مجردٍ مواطنةٍ تقوم بزيارة روتينية إلى عاصمة الخلافة!
قد يغدو مشروعاً أن تأكل الغيرة قلبكِ برهةً وجيزةً، لأنك مجرّد عابرةٍ لن تترك أثرا، مسموح لك استنشاق ذلك العبق الغامض لرائحة أزمنةٍ غابرةٍ، وأنت مدركة أنه محظور عليك التعلق، لأنك بصدد فراق وشيك. قد تتكئين على جدار مسجد الحي الصغير، محاولةً التقاط أنفاسك التي تلاحقت بفعل المشي ساعاتٍ طويلةً بلا توقف، فتسأل عن حالك سيدةً لعلها تجاوزت السبعين من عمرها بقليل، وهي تجرّ عربةً صغيرةً مليئةً بالبقالة، بلغةٍ تركيةٍ تستطيعين استنتاج فحواها، فتشكرينها، وتشرحين، بلغة الإشارة، مستعينة ببضع مفرداتٍ تركيةٍ تمكّنت من التقاطها، أنك تأخذين استراحةً صغيرة. تغيب السيدة اللطيفة خلف باب بيتٍ صغير، تسترقين النظر من فتحةٍ في الجدار، لتكتشفي أن باب البيت يؤدي إلى حوشٍ صغير، تتوسّطه شجرة زيتون، تتوزّع فيه ثلاث حجراتٍ تطلّ نوافذها المجللة بستائر بيضاء منسوجة بإتقانٍ على الحوش الذي تفوح منه رائحة النعناع. ولا تدركين سبب الحزن الذي غمر قلبك في تلك اللحظة على نحو مفاجئ. لعلك تذكرتِ أغنية فيروز "بيتك يا ستّي الختيارة بيذكّرني ببيت ستّي"، أم أنه حقا كان يشبه بيت جدتك، وتجزمين بأن هناك فرقا بين الحوشين، لأن الشجرة التي توسطت بيت جدّتك كانت سروةً عملاقةً، قررت العائلة قطعها فيما بعد، بحجةٍ واهيةٍ لم تفهميها بعد.
ولسببٍ لا يعلمه سوى الله، تقرّر روحك الحمقاء أن الوقت مناسبٌ للتفجّع على شجرتك المفقودة قبل عقود مضت، فتبدين امرأةً حزينةً مشوّشةً، وأنت تسيرين بتثاقلٍ في ذلك الزقاق الإسطنبولي البعيد. ولا تقاومين انهمار دموعك المباغت. تبكين مثل طفلٍ أدركه اليتم، تعبرين الأزقة بسرعةٍ أكبر، محاولة التماسك. تصلين إلى الشارع الرئيسي، تقطعينه إلى الجهة المقابلة. تقتربين من الشاطئ الصخري. يروق لك مشهد نادل المطعم المتخصص بأصناف السمك، يرمي بقايا الأطباق للنوارس التي انقضت دفعةً واحدةً، تلتهم بامتنان ذلك الرزق الوفير. تجلسين في مقابل بحر مرمرة، تتأملين السفن بغبطةٍ. تبتاعين من بائع متجول قبعةً صوفيةً أنت لست بحاجة إليها، تواصلين المسير بمحاذاة الشاطئ، تتوقفين بالقرب من صيادين رموا صنّارتهم في البحر. يدعونك إلى كأس شاي ساخن، تخجلين من الاعتراف أنك لست من محبي الشاي، ترتشفينه على مهل، تجيبين على سؤالهم من أي البلاد أنت. يقول أحدهم وكأنه يذيع: بلادكم كانت أراضي عثمانية أيتها السيدة. تضحكين في سرّك، وتهمسين: ليت ذلك الرجل المريض الذي درسنا قصته في كتب التاريخ المقرّرة تعافى في الوقت المناسب، لكان السيناريو اختلف كليا، ولكنت مجردٍ مواطنةٍ تقوم بزيارة روتينية إلى عاصمة الخلافة!