إسرائيل والثورة السورية: فليستمرّ القتال... والأسد

17 مارس 2014
ظلّت سوريا "الجار المثالي" طيلة 4 عقود لإسرائيل (getty)
+ الخط -

تبقى إسرائيل، كقوة احتلال، لاعبا أساسياً في الوطن العربي، حتى ولو لم تشارك فعلياً في المسارات السائدة فيه. لكن الربيع العربي الذي فاجأ إسرائيل في تونس ومصر وسوريا، ووقوفها الواضح في ربيع مصر مع استمرار نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، ثم دعمها للانقلاب الذي أطاح الرئيس محمد مرسي، وضعها تلقائياً في صف قوى الثورة المضادة، وفي خانة النظام الإقليمي الذي اعتادته. لم يختلف الأمر في الحالة السورية، وإن بدت إسرائيل أكثر حكمة، بعد استخلاصها العبر من موقفها في الملف المصري.

مع اندلاع الثورة السورية قبل ثلاثة أعوام، فضلت إسرائيل ورئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، الانتظار قبل اتخاذ موقف معلن، مع تأكيدها المباشر أنها تراقب وتحتفظ بحقها في حماية حدودها، وإصرارها على أنها لن تكون طرفاً في الحرب الداخلية في سوريا. وظل هذا الموقف الرسمي لإسرائيل على مدار العامين الأولين للثورة، مع إطلاقها تحذيرات متكررة لنظام الرئيس بشار الأسد، بأن أي محاولة لتصدير أزمته إلى الخارج، سيتم قمعها والرد عليها بإسقاطه. وكانت أول إشارة بهذا الخصوص قد أُرسلت للنظام السوري، في السادس عشر من مايو/أيار 2011، بعدما سمح الجنود السوريون في الطرف السوري من الجولان المحتل، لآلاف الفلسطينيين واللاجئين، باجتياز السياج الحدودي مع الأراضي المحتلة، والوصول إلى قرية مجدل شمس في الجولان. حتى أن أحد السوريين تمكن من الوصول إلى يافا حينذاك.

حذّرت إسرائيل يومها، على لسان نتنياهو، ووزير دفاعه في الحكومة السابقة، إيهود باراك، من أن أية محاولة أخرى ستواجَه بعنف شديد، وبإسقاط نظام الأسد. فهم النظام في دمشق الرسالة، وحافظ على هدوء الحدود، من دون أن يوقف دعايته بأن "الاستعمار والعدو الصهيوني" يقفان وراء الثورة السورية.

وخلال أول عامين للثورة السورية، احتفظت إسرائيل بموقفها العلني بعدم التدخل، لكنها شنّت غارات عديدة على أهداف سورية مختلفة، من دون أن تعترف بمسؤوليتها المباشرة عنها، وإن كانت من خلال تصريحات غير مباشرة عبر الإعلام الأجنبي قد أشارت إلى أيادي إسرائيل الطويلة، في تكرار لازمة مفادها أنّ إيصال الأسلحة، وخصوصاً الصواريخ "الاستراتيجية" و"السلاح غير التقليدي"، إلى منظمات موجودة خارج سوريا، وفي مقدمتها حزب الله، هو الخط الأحمر الإسرائيلي.

لكن ذلك لم يمنع تقديرات إسرائيلية تفيد بأنّ بقاء النظام الحالي، عبر إطالة عمر الحرب الأهلية، يخدم مصالح إسرائيل. وفي هذا السياق، كتب الباحث في "مركز أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي، رون طيرا، في أول ورقة تقدير موقف بخصوص الثورة السورية، أن "الوضع الراهن هو استمرار للماضي، والسائد في سوريا اليوم (2011) يضمن الاستقرار، إذ أن النظام العلوي هش وقابل للضرب، كما أن لإسرائيل طرقاً سهلة للوصول إليه عسكرياً. ولكن إذا سقط النظام، فستكون النتيجة الفورية هي عدم اليقين، واهتزاز بعض الأسس الكابحة للنظام السوري". وتابع طيرا آنذاك قائلاً إنّه "من الأفضل لإسرائيل أن يكون في سوريا خصم سياسي متلاحم، نعرف نقاط ضعفه، بدل خطر تكرار النموذج العراقي في سوريا، أي تفكك سوريا وتحولها إلى دولة فاشلة". وأشار في ورقته إلى أن "أي نظام جديد في سوريا، يكون موالياً لتركيا سياسياً، لن يكون بالضرورة مفيداً لإسرائيل، إذ من شأنه أن يزيد من حدة الاحتكاك والتوتر مع أنقرة، ويغيّر من طبيعة هذا الاحتكاك، ويعزز قوة سوريا الجديدة، لذا من شأن العلويين أن يكونوا حالة مميزة تكون فيها مصلحة إسرائيل مختلفة عن المصلحة السنية القاضية بهزّ أركان حلفاء إيران".

ظلت هذه التقديرات في خلفية الموقف المعلن بعدم التدخل في ما يحدث في سوريا، باستثناء مسألة السلاح الكيماوي ونقل الأسلحة غير التقليدية خارج سوريا. وكانت هذه المسألة هي "الدافع" الإسرائيلي وراء عمليات الإغارة والقصف التي تكررت في العامين الأولين من الثورة (من دون اعتراف إسرائيلي رسمي) على مخازن أسلحة سورية، رافقتها باستمرار تصريحات إسرائيلية بضرورة نزع أسلحة الدمار السورية، والتلويح بخطر النظام. وقد سجّل شهر مايو/أيار من عام 2013، أول تحذير إسرائيلي عبر صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، نُسب إلى مصدر أمني رفيع المستوى، جاء فيه أن "أي رد سوري على الغارات التي وقعت على مخازن الأسلحة وقوافل الأسلحة المخصصة لحزب الله، يعني تدخل إسرائيل لإسقاط النظام".

كان الموقف الإسرائيلي في تلك الفترة، يتحدث بالأساس عن مخاطر "وصول الأسلحة غير التقليدية" إلى منظمات إرهابية، في ظل التقديرات باقتراب سقوط نظام الأسد لولا مذابح الغوطة، وثبوت استخدام النظام للسلاح الكيماوي ضد مواطنيه في 21 أغسطس/آب 2013.

لقد شكّل الاتفاق الأمريكي ــ الروسي في سبتمبر/أيلول 2013، بشأن نزع الأسلحة الكيماوية السورية، نقطة تحوّل في الموقف الإسرائيلي المعلن، وتغييراً في سلّم اهتمامات إسرائيل، فنظام الأسد، من دون السلاح الكيماوي، لا يهدد أمن إسرائيل، بل إنه وفقاً لـ"طبيعة النظام" وعدم رده على الاعتداءات الإسرائيلية، وتثبيت هدنة على الحدود طيلة أربعة عقود، يشكل "الجار المثالي" لإسرائيل، مقارنةً بظهور قيادة جديدة منتخبة ووطنية غير ملتزمة بتفاهمات سابقة، أو تحمل توجهات مغايرة.

تحوّلت إسرائيل، منذ التوقيع على الاتفاق السوري ــ الأمريكي، وإعلان سوريا موافقتها على نزع وإبادة أسلحتها الكيماوية، إلى التركيز على وجوب ضمان التزام النظام بالاتفاق. وأعلن نتنياهو في 15 سبتمبر/أيلول، خلال لقاء صحافي مشترك مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، أنّ الحكم على الاتفاق سيكون مرهوناً بتطبيقه والتزام النظام به. وأضاف أن الاتفاق يؤكد ما تقوله تل أبيب دائماً بضرورة نزع هذه الأسلحة من أيدي الأنظمة المتطرفة، وأن هذا الأمر يجب أن ينطبق أيضاً على الجهود الدولية لوقف المساعي الإيرانية لتطوير أسلحة ذرية.

لكن ذلك لم يمنع الحكومة الإسرائيلية، بعد أسبوعين، من إعلان أن إسرائيل لن تغير موقفها أو سياستها في مجال الأسلحة الكيماوية، وبالتالي أنها لن تنضمّ إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة الكيماوية. مع ذلك، أعلنت دولة الاحتلال، بعد موافقة سوريا على الاتفاق الروسي ــ الأمريكي، وانضمام دمشق إلى المعاهدة، عن وقف تصنيع الكمامات الواقية من الأسلحة الكيماوية.

وبحسب الباحث دافيد فريدمان، كانت الترسانة الكيماوية السورية تشكل التحدي الاستراتيجي الأكبر لإسرائيل. وقد رأى فريدمان، في تقدير موقف نشره "مركز أبحاث الأمن القومي"، أن الاتفاقية منحت عملياً نظام الأسد تصريحاً بالبقاء وشرعية دولية، على الأقل إلى حين تطبيق الاتفاقية، وهو ما وجّه ضربة للثوار في سوريا، لكنه وفر لإسرائيل، في الوقت ذاته، فرصة لإدخال تغييرات في سياساتها الأمنية والاستراتيجية، ونقل الاهتمام إلى الحديث عن "خطر الجماعات الأصولية والإرهاب وعدم الاستقرار في المنطقة في حال نجحت التنظيمات الجهادية في السيطرة على سوريا".

ويعترف المحلل العسكري في "هآرتس"، عموس هرئيل، في تقرير نشره في 24 يناير/كانون الثاني 2014، بأنه في إثر هذه التطورات، بات من الصعب الحصول على جواب من الجهات الرسمية في إسرائيل، عما إذا كانت تل أبيب تؤيد بقاء النظام أم زواله، إذ اختفت من قاموس الخطاب الإسرائيلي الدعوات المباشرة لإسقاط نظام الأسد منذ "أشهر عدة"، بعد ما غيّرت التطورات التي حدثت في سوريا في الأشهر الأخيرة، وسيطرة تنظيمات محسوبة على "القاعدة" على جزء من نشاط المعارضة في سوريا، الموقف الإسرائيلي على غرار ما حدث في واشنطن ودول الغرب، وذلك بعد ما أبدى الأسد قدرة على البقاء في الحكم.

وتفضل إسرائيل اليوم، عند المفاضلة بين الأسد وبين "القاعدة"، استمرار القتال (مع مواصلة إبداء التعاطف الفارغ المضمون مع الضحايا). وحتى في حال عدم إعلان ذلك على الملأ، يبدو أنه إذا تفاقمت المعضلة، فسوف تفضل إسرائيل بقاء الأسد، وقد ساهم تجمع "عشرات آلاف" مقاتلي "الجهاد العالمي" في الجانب السوري من الحدود لهضبة الجولان، في تغيير الموقف الإسرائيلي. 

المساهمون