يتضح من التفاصيل التي نشرتها الصحف الإسرائيلية، أمس الأربعاء، بعد رفع حظر النشر عن الضربة الإسرائيلية لسورية بين 5 و6 سبتمبر/أيلول 2007، لإبادة المفاعل الذري السوري في دير الزور، أن نقطة التحول الرئيسية في العملية كانت عملياً في الثالث من مارس/آذار 2007، بعد أن تمكن عملاء للموساد من اختراق حاسوب رئيس اللجنة الذرية في سورية، إبراهيم عثمان، أثناء مشاركته في مؤتمر رسمي للجنة الطاقة الذرية الدولية في فيينا.
وبينت التقارير الإسرائيلية، وتصريحات تم تناقلها أمس في وسائل الإعلام، أن الموقف في تل أبيب قد حسم عملياً في 8 مارس، بعد أن تمكن عملاء الموساد من تحليل الصور التي تمت سرقتها من حاسوب المسؤول السوري، لجهة ضرب المنشآت السورية. لكن السؤال الذي كان مطروحاً طيلة الوقت هو كيف يمكن توجيه ضربة للموقع السوري من دون المخاطرة برد سوري قد يتطور إلى حرب إقليمية؟
وادعت التقارير الإسرائيلية، أمس، أن رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، إيهود أولمرت، وضع قاعدة تقول بضرب المفاعل من دون الوصول إلى حالة حرب. ووفقاً لتصريحات صدرت أمس عن وزيرة الخارجية الإسرائيلية، آنذاك، تسيبي ليفني، ووزير الأمن الأسبق إيهود باراك، فقد كان الهدف الأولي في عملية ضرب المفاعل هو كيفية تنفيذ ذلك من دون المخاطرة بحرب مع سورية. وأقرت تسيبي ليفني، وعيدو نحشون، المسؤول عن العملية في سلاح الجو، أنه تقرر في نهاية المشاورات المختلفة، تحديد عملية "متواضعة" وسرية تضمن في نهاية المطاف تحقيق الهدف وفي الوقت ذاته إبقاء ما يسمى في إسرائيل "هامش الإنكار" قائماً في حسابات رئيس النظام السوري، بحيث يستطيع الأسد مواصلة إنكار وجود مفاعل ذري، مقابل تكتم إسرائيلي عن طبيعة الهجوم في سورية، وبالتالي احتواء الضربة وعدم الاتجاه نحو رد عسكري لإنقاذ كرامة النظام والانتقام للسيادة السورية. وأوضحت ليفني، في هذا السياق، أن الحكومة الإسرائيلية، التي أطلعت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش، على الأدلة التي توفرت لها عن سعي الأسد لبناء مفاعل ذري، أرادت من الإدارة الأميركية أن تقوم بضرب سورية، واعترضت، في الوقت ذاته، على أن تحاول الإدارة الأميركية ممارسة ضغوط دبلوماسية على سورية بشأن المفاعل الذري، خوفاً من أن يكشف ذلك للأسد أن إسرائيل كانت على علم بما يحدث في دير الزور.
وبحسب المعلومات، فقد حرصت إسرائيل على السرية التامة، وألا تكشف للأسد ما توصلت إليه من معلومات لضمان تنفيذ عمليتها من دون أن يستعد الأسد لهذا الخيار، أو يضع قواته على أهبة الاستعداد لتوجيه ضربة لإسرائيل رداً على العملية. وفي المقابل، أقر عدد من قادة الجيش، ووفقاً لتصريحات رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، غابي أشكنازي، بأنه أعطيت أوامر للجيش الإسرائيلي للاستعداد ورفع حالة الجهوزية فيه، لاحتمال نشوب حرب إقليمية. وفي هذا السياق كان على الجيش أن يقوم بالاستعدادات من دون استدعاء قوات الاحتياط، أو نشر قوات على الحدود، وذلك لتفادي رصد سوري للتحركات الإسرائيلية على الحدود.
وإلى جانب التحركات والاستعدادات العسكرية فقد كانت إسرائيل أعدت خطة دبلوماسية لمواجهة حالة اندلاع حرب. وفي هذا السياق، أقرت ليفني، في مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية أمس، أنه بعد إطلاع الإدارة الأميركية على ما يجري، وبعد أن أبلغ بوش، في يونيو/حزيران 2007، أولمرت بأن الولايات المتحدة لن تنفذ ضربة عسكرية ضد المفاعل السوري، جاء الرد الإسرائيلي بقرار ضرب سورية وأن الولايات المتحدة لم تعترض على ذلك. في المقابل سعت إسرائيل لإعداد الرأي العام العالمي، وأعدت مذكرات مفصلة تتضمن صوراً للمفاعل السوري في دير الزور، تم إيداعها لدى الملحقين العسكريين في السفارات الإسرائيلية في الخارج لاستخدامها في حال اندلاع الحرب.
لكن التقديرات الإسرائيلية باعتماد سياسة "هامش المناورة" (وهي السياسة التي استخدمتها إسرائيل في السنوات الأخيرة في عمليات القصف المختلفة للأراضي السورية، خصوصاً قوافل السلاح إلى "حزب الله"، بحيث يستطيع "حزب الله" إنكار وقوع الهجمات وبالتالي عدم اضطراره للرد عليها والمخاطرة بمواجهة عسكرية جديدة مع إسرائيل) كانت في نهاية المطاف صائبة من وجهة نظر إسرائيل. فقد ساهم التكتم الإسرائيلي الرسمي عن العملية وطبيعتها، وإعلانها المتكرر أنها لا تعقب على التقارير الأجنبية، في منح الأسد قدرة على إنكار وجود المفاعل، وبالتالي إنكار الضربة الإسرائيلية لسورية، وهو ما جعله في حل من الحاجة للرد على الانتهاك الإسرائيلي الفظ للسيادة السورية. وقد مكنت هذه السياسة إسرائيل من تحطيم القدرة الأكثر تهديداً لها في سورية، من دون أن تدفع ثمن ذلك في حرب جديدة، خصوصاً أن الجيش الإسرائيلي كان لا يزال يلملم جراحه من ذيول هزيمته في حربه على لبنان في العام 2006.