عكس القطاعات، التي مست كثيراً من الحقول في الجزائر، بالنظر إلى التحولات الاجتماعية المختلفة، حافظ حقل الصناعات التقليدية، وفي مقدمتها النسيج، على شغف الجيل الجديد من الفتيات اللواتي باتت لهن فتوحات فيه
لا يكفي نسب وجمال الفتاة في مناطق جزائرية كثيرة، خاصة المناطق القروية، كعاملَيْن لإغراء التقدم لخطبتها، ما لم تكن بارعة في الصناعات التقليدية، يأتي في مقدمتها النسيج، فهي مطالبة بأن تعد بنفسها الأفرشة والأغطية الصوفية التي تحتاج إليها في بيت الزوجية، وتسمى العاجزة عن ذلك أو الجاهلة له "مكسورة الأيدي"، كما أخبرتنا الحاجة تركية في مدينة باتنة، 500 كيلومتر شرقاً.
الحاجة تركية كشفت لنا أن زواجها في ستينيات القرن العشرين تأخر بما يكفي لأن يجلب للعائلة والقبيلة عاراً، ذلك أن العنوسة مجلبة له في تلك الفترة، بسبب أنها تأخرت في الإلمام بتقنيات النسيج، رغم إلحاح جدتها وأمها عليها، وهي تعمل اليوم على ألا تقع حفيداتها في المطب نفسه. تقول: "تغير الوضع اليوم كثيراً، فانتقلت قدرة الفتاة على إعداد حياكة فراشها بنفسها من شرط صارم لزواجها، إلى عامل إضافي فقط في أن تحظى بزوج، وأنا أعددت بناتي وحفيداتي جيداً في هذا الباب، حتى أنهن تجاوزن الاكتفاء الذاتي إلى عرض منسوجاتهن للبيع".
رافقنا عائشة ونسيمة حفيدتي الحاجة تركية إلى المحل الذي يستقبل منسوجاتهما لبيعها مقابل نسبة من الأرباح، فوقفنا على إبداعات خالصة في تحويل الصوف إلى وسائد وأغطية وزرابٍ ذات ألوان وأشكال امتزج فيها الجديد بالقديم في تناغم جمالي، بأسعار مرتفعة بالمقارنة مع شبيهتها القادمة من الخارج، خاصة من إيران التي شرعت مؤخراً تفتح لزرابيها فضاءات تجارية في المدن الجزائرية.
تقول عائشة لـ"العربي الجديد" إنها تبذل جهداً في التوفيق بين النسيج في البيت والدراسة في الجامعة، لكنها لا تتبرّم من ذلك. "كثير من الفتيات يتعلمن النسيج حتى يتزوجن أو يساعدن أسرهن أو يشترين حلياً وألبسة، في حين تعلمته من جدتي وأمارسه من منطلق فني صرف، فأنا أجد ذاتي بمجرد أن أواجه كومة الصوف قبل أن أغسلها أصلاً". يمر إعداد الصوف بعد غسله ليتحول إلى خيوط معدة لأن تصبح زربية أو وسادة أو غطاء أو لباساً، بحسب محدثتنا، بمراحل دقيقة، في مقدمتها تفكيكها بآلة ذات أسنان حديدية حساسة، تسمى في اللهجة الجزائرية "القرداش"، ثم غزلها بواسطة آلة خشبية تسمى "المغزل"، ثم صباغتها بألوان مختلفة في محلات خاصة.
اقــرأ أيضاً
تشتهر مدن جزائرية معينة بانتشار أسواق متخصصة في استقبال هذه المنسوجات القادمة من البيوت، منها خنشلة وأم البواقي وباتنة والمسيلة شرقاً، والبيض والنعامة والمشرية غرباً، وبسكرة والجلفة والأغواط جنوباً، وتزدهر هذه الأسواق بعد الأشهر الثلاثة التي تلي شهر أبريل/ نيسان موعد جز الصوف من طرف مربي الماشية في البادية.
عن الصعوبة، التي باتت النساجات الجزائريات يجدنها في الحصول على الصوف، تقول حليمة، التي كانت إحدى المبادرات إلى تأسيس تظاهرة "عيد الزربية"، التي تشتهر بها منطقة بابار في منطقة الأوراس شرقاً: "مع تراجع تربية الأغنام في السنوات الأخيرة، لأسباب تتعلق بالتحولات التي تعرفها حياة الجزائريين، بتنا نتعب في الحصول على الصوف، وما يتوفر منها باتت تنافسنا فيه العرائس، بظهور موضة صناعة المطارح، وهي أفرشة محشوة بالصوف".
باتت هذه الأسواق تجد منافسة لها في السنوات الخمس الأخيرة من طرف غرف الصناعات التقليدية، التي بادرت إليها وزارة السياحة، وينتعش إقبالها على استقبال إنتاجات الفتيات الماكثات في البيوت، خلال الفترة الممتدة ما بين 18 أبريل/ نيسان و18 مايو/ أيار باعتبارها شهراً للتراث، إلى جانب جملة من المعارض التي تستقبل الحرفيات منها "المعرض الجهوي للحرفيات" بمدينة البويرة، و"الصالون الوطني للمرأة الحرفية"، و"الصالون الدولي للصناعات التقليدية" في الجزائر العاصمة، في انتظار اكتمال مشروع القرية الحرفية في قسنطينة.
البرنس والعباءة، أو القشابية في اللهجة الجزائرية، القادمان من منطقة الجلفة، 400 كيلومتر جنوبًا، من أكثر المنسوجات التي تجلب انتباه الزبائن في هذه الأسواق والغرف، بالنظر إلى كونهما من أكثر الألبسة التي تحيل إلى الهوية الجزائرية، وإلى براعة فتاة المنطقة في حياكتهما، حتى أنهما باتا في مقدمة الهدايا، التي تقدمها المؤسسات الرسمية للشخصيات الفنية والرياضية والاقتصادية والسياسية الكبيرة التي تزور البلاد.
يقول مهدي بلحميتي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة مستغانم، إن شغف الفتاة الجزائرية بالحفاظ على هذا الإرث، ليس فقط ثمرة لما يدره عليها من مال، خاصة أن هناك تسهيلات في الضرائب والقروض في هذا الباب، بل هو ثمرة لسعيها إلى الإبقاء على بعدها الهوياتي أيضاً. "إن ممارسة النشاط الحرفي فعل يجمع الجماعة الواحدة حول بعد قيمي مشترك". ويختم حديثه مع "العربي الجديد" بالقول: "عادة ما يكون النسيج شغلاً جماعياً، وخلاله تتحرر المرأة عن الفضاء الرجالي وتثبت ذاتها إبداعياً ومالياً".
لذا تسعى الدولة بمختلف مؤسساتها إلى الحفاظ على هذا الإرث، من خلال تجسيد مشاريع مختلفة كدعم مختلف الحرفيين الذين ما زالوا إلى حد اليوم يحافظون على هذه الصناعات.
اقــرأ أيضاً
الحاجة تركية كشفت لنا أن زواجها في ستينيات القرن العشرين تأخر بما يكفي لأن يجلب للعائلة والقبيلة عاراً، ذلك أن العنوسة مجلبة له في تلك الفترة، بسبب أنها تأخرت في الإلمام بتقنيات النسيج، رغم إلحاح جدتها وأمها عليها، وهي تعمل اليوم على ألا تقع حفيداتها في المطب نفسه. تقول: "تغير الوضع اليوم كثيراً، فانتقلت قدرة الفتاة على إعداد حياكة فراشها بنفسها من شرط صارم لزواجها، إلى عامل إضافي فقط في أن تحظى بزوج، وأنا أعددت بناتي وحفيداتي جيداً في هذا الباب، حتى أنهن تجاوزن الاكتفاء الذاتي إلى عرض منسوجاتهن للبيع".
رافقنا عائشة ونسيمة حفيدتي الحاجة تركية إلى المحل الذي يستقبل منسوجاتهما لبيعها مقابل نسبة من الأرباح، فوقفنا على إبداعات خالصة في تحويل الصوف إلى وسائد وأغطية وزرابٍ ذات ألوان وأشكال امتزج فيها الجديد بالقديم في تناغم جمالي، بأسعار مرتفعة بالمقارنة مع شبيهتها القادمة من الخارج، خاصة من إيران التي شرعت مؤخراً تفتح لزرابيها فضاءات تجارية في المدن الجزائرية.
تقول عائشة لـ"العربي الجديد" إنها تبذل جهداً في التوفيق بين النسيج في البيت والدراسة في الجامعة، لكنها لا تتبرّم من ذلك. "كثير من الفتيات يتعلمن النسيج حتى يتزوجن أو يساعدن أسرهن أو يشترين حلياً وألبسة، في حين تعلمته من جدتي وأمارسه من منطلق فني صرف، فأنا أجد ذاتي بمجرد أن أواجه كومة الصوف قبل أن أغسلها أصلاً". يمر إعداد الصوف بعد غسله ليتحول إلى خيوط معدة لأن تصبح زربية أو وسادة أو غطاء أو لباساً، بحسب محدثتنا، بمراحل دقيقة، في مقدمتها تفكيكها بآلة ذات أسنان حديدية حساسة، تسمى في اللهجة الجزائرية "القرداش"، ثم غزلها بواسطة آلة خشبية تسمى "المغزل"، ثم صباغتها بألوان مختلفة في محلات خاصة.
تشتهر مدن جزائرية معينة بانتشار أسواق متخصصة في استقبال هذه المنسوجات القادمة من البيوت، منها خنشلة وأم البواقي وباتنة والمسيلة شرقاً، والبيض والنعامة والمشرية غرباً، وبسكرة والجلفة والأغواط جنوباً، وتزدهر هذه الأسواق بعد الأشهر الثلاثة التي تلي شهر أبريل/ نيسان موعد جز الصوف من طرف مربي الماشية في البادية.
عن الصعوبة، التي باتت النساجات الجزائريات يجدنها في الحصول على الصوف، تقول حليمة، التي كانت إحدى المبادرات إلى تأسيس تظاهرة "عيد الزربية"، التي تشتهر بها منطقة بابار في منطقة الأوراس شرقاً: "مع تراجع تربية الأغنام في السنوات الأخيرة، لأسباب تتعلق بالتحولات التي تعرفها حياة الجزائريين، بتنا نتعب في الحصول على الصوف، وما يتوفر منها باتت تنافسنا فيه العرائس، بظهور موضة صناعة المطارح، وهي أفرشة محشوة بالصوف".
باتت هذه الأسواق تجد منافسة لها في السنوات الخمس الأخيرة من طرف غرف الصناعات التقليدية، التي بادرت إليها وزارة السياحة، وينتعش إقبالها على استقبال إنتاجات الفتيات الماكثات في البيوت، خلال الفترة الممتدة ما بين 18 أبريل/ نيسان و18 مايو/ أيار باعتبارها شهراً للتراث، إلى جانب جملة من المعارض التي تستقبل الحرفيات منها "المعرض الجهوي للحرفيات" بمدينة البويرة، و"الصالون الوطني للمرأة الحرفية"، و"الصالون الدولي للصناعات التقليدية" في الجزائر العاصمة، في انتظار اكتمال مشروع القرية الحرفية في قسنطينة.
البرنس والعباءة، أو القشابية في اللهجة الجزائرية، القادمان من منطقة الجلفة، 400 كيلومتر جنوبًا، من أكثر المنسوجات التي تجلب انتباه الزبائن في هذه الأسواق والغرف، بالنظر إلى كونهما من أكثر الألبسة التي تحيل إلى الهوية الجزائرية، وإلى براعة فتاة المنطقة في حياكتهما، حتى أنهما باتا في مقدمة الهدايا، التي تقدمها المؤسسات الرسمية للشخصيات الفنية والرياضية والاقتصادية والسياسية الكبيرة التي تزور البلاد.
يقول مهدي بلحميتي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة مستغانم، إن شغف الفتاة الجزائرية بالحفاظ على هذا الإرث، ليس فقط ثمرة لما يدره عليها من مال، خاصة أن هناك تسهيلات في الضرائب والقروض في هذا الباب، بل هو ثمرة لسعيها إلى الإبقاء على بعدها الهوياتي أيضاً. "إن ممارسة النشاط الحرفي فعل يجمع الجماعة الواحدة حول بعد قيمي مشترك". ويختم حديثه مع "العربي الجديد" بالقول: "عادة ما يكون النسيج شغلاً جماعياً، وخلاله تتحرر المرأة عن الفضاء الرجالي وتثبت ذاتها إبداعياً ومالياً".
لذا تسعى الدولة بمختلف مؤسساتها إلى الحفاظ على هذا الإرث، من خلال تجسيد مشاريع مختلفة كدعم مختلف الحرفيين الذين ما زالوا إلى حد اليوم يحافظون على هذه الصناعات.